تفسير المراغي - ج ٢٤

أحمد مصطفى المراغي

ثم بين أن ذلك لا يفيدهم شيئا فقد فات الأوان ، فلا يفيد الندم ولا الاعتراف بالحق شيئا

ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

فقال سبحانه :

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي فلم يفدهم إيمانهم عند ما عاينوا عقابنا ، وحين نزل بهم عذابنا ، ومضى فيهم حكمنا ، فمثل هذا الإيمان لا يفيد شيئا كما قال تعالى لفرعون حين الغرق وحين قال : «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ» ـ «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟».

وبعدئذ ذكر سبحانه أن هذه سنته فيهم وفي أمثالهم من المكذبين فقال :

(سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي وهكذا كانت سنة الله في الذين سلفوا إذا عاينوا عذابه ألا ينفعهم إيمانهم حينئذ ، بعد أن جحدوا به وأنكروا وحدانيته ، وعبدوا من دونه من الأصنام والأوثان.

وقصارى ذلك ـ إن حكم الله في جميع من تاب حين معاينة العذاب ألا تقبل منه توبة ، وقد جاء في الحديث «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرر» أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحلقوم فلا توبة ، ولهذا قال : «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ».

اللهم اقبل توبتنا ، واغفر حوبتنا ، وآمن روعتنا : واجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله.

مجمل ما حوته السورة الكريمة

(١) وصف الكتاب الكريم.

(٢) الجدل بالباطل في آيات الله.

(٣) وصف الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله.

١٠١

(٤) طلب أهل النار الخروج منها لشدة الهول ثم رفض هذا الطلب.

(٥) إقامة الأدلة على وجود الإله القادر.

(٦) إنذار المشركين بأهوال يوم القيامة.

(٧) قصص موسى عليه السلام مع فرعون وما دار من الحوار بين فرعون وقومه والذي يكتم إيمانه.

(٨) أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل.

(٩) تعداد نعم الله على عباده في البر والبحر.

سورة فصلت

هى مكية وآيها أربع وخمسون ، نزلت بعد غافر.

أخرج ابن أبى سيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : «اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولينظر بم يردّ عليه؟ فقالوا ما نعلم أحدا غير عتبة ابن ربيعة فقالوا ائته يا أبا الوليد ، فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ ، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال عتبة فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك ، فرّقت جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب ، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا ، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى

١٠٢

بعض بالسيوف ، يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا ، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : فرغت؟ قال : نعم ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ» ـ حتى بلغ ـ «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» فقال عتبة : حسبك حسبك ، ما عندك غير هذا؟ قال : لا ، فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك؟ قال ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته ، قالوا فهل أجابك؟ قال والذي نصبها بنية (يريد الكعبة) ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، قالوا ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدرى ما قال؟ قال لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة».

وأخرج أبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال : «لما قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة حم أتى أصحابه فقال يا قوم : أطيعونى في هذا اليوم واعصوني بعده ، فو الله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذنى قط كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه».

وفي هذا الباب روايات كثيرة تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة وتلاوته صلّى الله عليه وسلم أول هذه السورة عليه.

ومناسبتها ما قبلها :

(١) إنهما اشتركتا في تهديد قريش وتقريعهم ، فقد توعدهم في السورة السابقة بقوله : «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» إلخ وهددهم هنا بقوله : «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ».

(٢) إن كلتيهما بدئت بوصف الكتاب الكريم.

١٠٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥))

تفسير المفردات

لا يسمعون : أي لا يقبلون ولا يطيعون ، من قولهم : تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولى : أي لم يقبله ولم يعمل به فكأنه لم يسمعه ، والأكنة واحدها كنان كأغطية وغطاء : وهى خريطة السهام ؛ والمراد أنها في أغطية متكاثفة ، والوقر : الثقل في السمع.

الإيضاح

(حم) تقدم الكلام في هذا في السورة قبلها.

(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي هذا القرآن منزل من الله الرّحمن الرّحيم على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم ، وخص هذين الوصفين (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بالذكر لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى المحتاجين إلى الدواء ، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية ، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية ، فكان رحمة لهم ولطفا بهم كما قال : «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ».

ونحو الآية قوله : «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ».

(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي هو كتاب بينت آياته ، وميزت لفظا بفواصل ومقاطع ،

١٠٤

ومبادئ للسور وخواتم لها ، وميزت معنى بكونها وعدا ووعيدا ، ومواعظ ونصائح وتهذيب أخلاق ورياضة نفس ، وقصص الأولين ، وتواريخ الماضين.

ونحو الآية قوله : «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ».

(قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي أنزلناه بلغة العرب ، ليسهل عليهم فهمه كما قال : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ».

وفي هذا امتنان من الله عليهم ، ليسهل عليهم قراءته وفهمه.

(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معانيه ، لكونه جاء بلسانهم ، فهم أهل اللسان فيفهمونه بلا واسطة ، وغيرهم لا يفهمه إلا بوساطتهم.

(بَشِيراً وَنَذِيراً) أي بشيرا لأوليائه بالجنة والنعيم المقيم إن داوموا على العمل بما فيه من أوامر ونواه ، ونذيرا لأعدائه بالعذاب الأليم إن هم أصروا على التكذيب به والجدل فيه بالباطل وترك أوامره وفعل نواهيه.

ثم بين حال المشركين حين أنزل إليهم فقال :

(فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي فاستكبر أكثر المشركين عن الإصغاء إليه ، ولم يقبلوه ولم يطيعوا ما فيه من أوامر ونواه ، إعراضا عن الحق.

ثم صرحوا بنفرتهم منه ، وتباعدهم عنه ، وذكروا لذلك ثلاثة أسباب ، تعللا واحتقارا لدعوته :

(١) (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) أي إن قلوبنا في أغطية متكاثفة مما تدعونا إليه من الإيمان بالله وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا ، فهى لا تفقه ما تقول من التوحيد ، ولا يصل إليها قولك.

(٢) (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي وفي آذاننا صمم يمنعها من استماع قولك.

(٣) (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي ومن بيننا وبينك ستر يمنعنا عن إجابتك.

روى أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال : يا محمد بيننا وبينك حجاب استهزاء منه.

١٠٥

وقصارى ما يقولون : إن قلوبهم نابية عن إدراك ما جئت به من الحق وتقبّله واعتقاده ، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها ، وأسماعهم لا يدخل إليها شىء منه ، كأن بها صمما ، ولتباعد الدينين وتباعد الطريقين كان بينهم وبين رسول الله حجاب كثيف ، وحاجز منيع.

ثم بارزوه بالخلاف وشن الغارات الجدلية بما لم يبق بعده مجال للوفاق فقالوا :

(فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) أي فاعمل في إبطال أمرنا جهد طاقتك ، ونحن نعمل جاهدين في فض الناس من حولك وتشتيت شمل من آمن بك حتى تبطل دعوتك.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨))

تفسير المفردات

فاستقيموا إليه : أي فأخلصوا له العبادة ، ويل : أي هلاك ، لا يؤتون الزكاة : أي لا يتصدقون بجزء من مالهم للسائل والمحروم ، ممنون : أي مقطوع من قولهم مننت الحبل إذا قطعته ، ومنه قول ذى الإصبع :

إنى لعمرك ما بابى بذي غلق

على الصديق ولا خيرى بممنون

المعنى الجملي

بعد أن ذكر المشركون الأسباب التي تحول بينهم وبين قبول دعوته ـ أمر رسوله أن يجيب عن كلامهم بأنه لا يقدر على جبرهم على الإيمان وحملهم عليه قسرا ،

١٠٦

فإنه بشر مثلهم ولا ميزة له عليهم إلا بأن الله أوحى إليه ولم يوح إليهم ، ثم ذكر أن خلاصة الوحى علم وعمل ، أما العلم فدعامته التوحيد ، وأما العمل فأسه الاستغفار والتوبة مما فرط من الذنوب ، ثم أردف ذلك التهديد لمن يشرك بالله ولا يزكى نفسه من دنس الشح والبخل ، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة ، وينصرف إلى الدنيا ولذاتها ، وبعد أن ذكر وعيد الكفار أعقبه بوعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن لهم عند ربهم أجرا دائما غير مقطوع ولا ممنوع.

الإيضاح

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي قل أيها الرسول لقومك : ما أنا إلا بشر مثلكم في الجنس والصورة والهيئة ، ولست بملك ولا جنّى لا يمكنكم التلقي منى ، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول ، بل أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه الدلائل الكونية ، وأيده النقل عن الأنبياء جميعا ، من آدم فمن بعده ، فأخلصوا له العبادة ، وسلوه العفو عن ذنوبكم التي سلفت منكم ، بالتوبة من شرككم ـ يتب عليكم ويغفر لكم.

(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي وخسارة وهلاك لمن أشرك بربه ولم يواس البائس الفقير بشىء من ماله ، يدفع به عوزه ، ويزيل خصاصته ، وأنكر البعث والحساب والجزاء ، وكان يقال : الزكاة قنطرة الإسلام ، فمن قطعها نجا ، ومن تخلف عنها هلك.

وإنما جعل منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة ، لأن أحب شىء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه ، فإذا بذله في سبيل الله فذاك أقوى دليل على استقامته وثباته وصدق نيته ، وصفاء طويته ؛ وما خدع المؤلّفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا ، بها لانت شكيمتهم ، وزالت عصبيتهم ؛ وما ارتدت بنو حنيفة بعد رسول الله إلا بمنعهم للزكاة ،

١٠٧

فعرّضوا أنفسهم للحرب ، والطعن والضرب ، إبقاء على أموالهم ولو ذهبت مهجهم وأرواحهم.

وقصارى ذلك ـ دمار وهلاك لمن أشرك بربه ، ولم يطهر نفسه من دنس الرذائل التي من أهمها البخل بالمال ودفع غائلة الجوع عن المسكين والفقير ، وأنكر البعث والجزاء.

ونحو الآية قوله : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» وقوله : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى».

وبعد أن ذكر وعيد المشركين أردفه وعد المؤمنين فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إن الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بما أمر به ، وانتهوا عما نهى عنه ـ لهم عند ربهم جزاء غير مقطوع ولا ممنوع.

قال السّدّى : نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر مثل ما كانوا يعملون في الصحة.

ونحو الآية قوله : «ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً» وقوله : «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ»

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ

١٠٨

سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))

تفسير المفردات

فى يومين : أي في نوبتين ، والرواسي : الجبال الثوابت ، أقواتها : أي أقوات أهلها ، سواء : أي كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة ، للسائلين : أي لطالبى الأقوات المحتاجين إليها ، استوى : أي عمد وقصد نحوها قصدا سويا من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر ، دخان : أي مادة غازية أشبه بالدخان ، فقضاهن : أي فرغ من تسويتهن ، أمرها : أي شأنها وما هى مستعدة له واقتضت الحكمة أن يكون فيها ، بمصابيح : أي بكواكب ونجوم ، وحفظا : أي وحفظناها حفظا من الآفات.

المعنى الجملي

بعد أن أمر رسوله بأن يقول للمشركين : إن ما تلقيته بالوحى أن إلهكم إله واحد ، فأخلصوا له العبادة ـ أردف هذا ما يدل على كمال قدرته وحكمته في خلق السموات والأرض على أطوار مختلفة متعاقبة وأكمل لكل منها ما هى مستعدة له ، وزين السماء بالنجوم والكواكب الثوابت والسيارات ، ولا عجب فذلك تقدير العزيز الغالب على أمره ، العليم بكل ما فيهما لا يخفى عليه شىء منهما ، فكيف يسوغ لكم أن تجعلوا الأوثان والأصنام شركاء له ، وليس لها شىء في خلقهما وتقديرهما ، تعالى الله عن ذلك.

الإيضاح

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ؟) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك توبيخا وتقريعا. كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض التي تقلّكم

١٠٩

فى نويتين؟ فتقولوا إنه لا يقدر على حشر الموتى من قبورهم ، وتنسبوا إليه الأولاد وتقولوا إنه لم يبعث أنبياء ـ أي كيف تقولون هذا ، مع أنه خلق الأرض في يومين.

(وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) أي وتجعلون له أندادا وأمثالا من الملائكة والجن والأصنام والأوثان.

ثم شدد عليهم في الإنكار وبين أن مثل هذا لا ينبغى أن يكون فقال :

(ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلك الذي خلق الأرض في نوبتين نوبة جعلها جامدة بعد أن كانت كرة غازية ، ومرة جعلها ستا وعشرين طبقة في ستة أطوار كما بين ذلك علماء طبقات الأرض (الجلوجيا) ـ هو رب العالمين لا ربها وحدها ، فهو مربّى المخلوقات جميعا ، فإن رباها في نوبتين فقد ربى غيرها في نوبات يعلم سبحانه عددها ، فكيف يكون شىء منها ندّا له وضريبا؟.

ثم بين إحكام ذلك الخلق وحسن تدبيره فقال :

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) أي وجعل فيها جبالا ثوابت مرتفعة عليها ، أسسها في الأرض وهى الطبقة الصوانية ، وهذه الطبقة هى التي برزت منها الجبال ، فالجبال أساسها بعيدة الغور ضاربة في جميع الطبقات واصلة إلى أول طبقة ، وهى الطبقة الصوانية التي لولاها لم تكن الأرض أرضا ولم نستقر عليها ؛ فأرضنا كرة من النار غطيت بطبقة صوّانية فوقها طبقات ألطف منها تكوّن فيها الحيوان والنبات على مدى الزمان ، والجبال نتوءات نتأت من تلك الطبقة وارتفعت فوقها عشرات آلاف الكيلو مترات ، وصارت محازن للمياه والمعادن وهداية للطرق وحافظة للهواء والسحاب.

(وَبارَكَ فِيها) أي وجعلها مباركة كثيرة الخيرات بما خلق فيها من المنافع ، فجعل جبالها مبدأ لجريان الأنهار ، ومخزنا للمعادن كالذهب والفضة والحديد والنحاس.

(وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي قدر لأهلها من الأقوات ما يناسب حال كل إقليم من مطاعم وملابس ونبات ، ليكون بعض الناس محتاجا إلى بعض ، فتروج المتاجر بينهم

١١٠

وتنتقل المحصولات من بلد إلى آخر ومن قطر إلى قطر ، وفي هذا عمار للأرض وانتظام أمور العالم.

ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال :

(فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي إن خلق الأرض وجعل الرواسي فيها في نوبتين ، وإكثار خيراتها وتقدير أقواتها في نوبتين فيكون ذلك في أربع نوبات كما يقول القائل خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما : أي في تتمة خمسة عشر يوما.

وقصارى ذلك ـ إن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وخلق الجبال الرواسي فيها وتقدير الأقوات في أربعة أيام.

(سَواءً لِلسَّائِلِينَ) أي في أربعة أيام كاملة وفق مراد طالب القوت ومن له حاجة إليه وهو كل حيوان على وجه الأرض كما قال : «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فالناس والحيوان جميعا كلهم سائلون ربهم ما يحتاجون إليه من طعام وشراب ولباس ورداء ـ سؤالا طبيعيا مغروسا في جبلّتهم.

ولما كان الإنسان يهتمّ بحال ما حوله من الأرض قدّم ذكرها وبين أنها هى وما عليها قد كوّنها في أربع نوبات ، فنوبة لتجمد المادة الأرضية بعد أن كانت غازا ، ونوبة لتكميل بقية طبقاتها ويدخل في ذلك معادنها ، ومرة للنبات وأخرى للحيوان.

ولما انتهى من الكلام في الأرض أخذ يذكر السماء ، فالترتيب في الذكر فحسب فقال :

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) أي ثم دعا داعى الحكمة إلى خلق السماء وهى مادة غازية أشبه بالدخان أو بالسحاب أو بالسديم ؛ وتسمى في العلم الحديث (عالم السديم) وقد شاهدوا من تلك العوالم اليوم عوالم كثيرة في عالم السديم آخذة فى البروز كما برزت شمسنا وسياراتها ، وأرضها وكانت في الأصل دخانا.

١١١

وعلى الجملة فالتكوين لم يكن في لحظة واحدة ، بل كان وفق الحكمة والنظام فى غير نوبة ، وكفى بكتاب مقدس أن يقول : إنه خلق الأرض في نوبتين ، وما عليها فى نوبتين ، والسموات السبع كذلك.

ثم ذكر ما كان من شأنهما بعد خلقهما فقال :

(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) أي فقال لتلك العوالم السماوية ، وللأرض التي دارت حولها : ائتيا كيف شئتما طائعتين أو كارهتين فأجابتا قالتا أتينا طائعين ، قال ابن عباس : قال الله تعالى للسموات : أطلعى شمسك وقمرك وكواكبك ، وأجرى رياحك وسحابك ، وقال للأرض : شقى أنهارك ، وأخرجى شجرك وثمارك ، طائعتين أو كارهتين : «قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ».

وفي هذا دلالة على الحركة المستمرة المعبر عن سببها بالجاذبية ، فهى حركة تجرى جرى طاعة لا جرى قسر ، فإنا نشاهد أنا نرمى الحجر إلى أعلى قسرا فيأبى إلا أن ينزل إلى الأرض بطريق الجاذبية إلى جسم أكبر منه وهى الأرض ، وهكذا الأرض مجذوبة إلى الشمس التي هى أصلها بحركة دورية دائمة طوعا لا قسرا ، لأن القسرية كرمى الحجر إلى أعلى سريعة الزوال ، أما حركة الطاعة فهى دائمة ما دام المطيع متخلقا بخلقه الذي هو فيه.

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي فأتم خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن فى نوبتين سوى الأربعة الأيام التي خلق فيها الأرض ، فوقع خلق السموات والأرض فى ستة كما قال : «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» على ما اقتضته الحكمة وحسن النظام.

ومن ذلك يفهم وجه الحكمة في قوله ـ فقال لها وللأرض إلخ ، وهى الدلالة على أن حركة الإتيان منهما كانت معا ، فبينما نرى الأرض دائرة حول نفسها وحول

١١٢

الشمس نرى الشمس دائرة حول نفسها وحول شموس أخرى أكبر منها ، فهذا هو السبب في ذكرهما معا.

وقصارى ذلك ـ إنه قال لهما معا وأجابتاه معا ، لأن الأرض لما كانت ضمن المجموعة الشمسية كانت دائرة كبقية أجزائها.

(وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي وخلق في كل منها ما استعدت له ، واقتضت الحكمة أن يكون فيها من بحار وبرد وثلج إلى نحو أولئك مما لا يعلمه إلا الله ، قاله السدى وقتادة.

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح ، وهى وإن تفاوتت ارتفاعا وانخفاضا فكلها ترى متلألئة.

(وَحِفْظاً) أي وحفظناها من الاضطراب في سيرها ومن اصطدام بعضها ببعض ، وجعلناها تسير على نهج واحد ما دام هذا النظام باقيا حتى يأتى اليوم الموعود ، فهناك تختل نظمها كما قال سبحانه : «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ».

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي إن ذلك الذي تقدم هو تقدير العزيز الذي قد عزّ كلّ شىء فغلبه وقهره ، العليم بحركات مخلوقاته وسكناتها ، سرها ونجواها ، ظاهرها وباطنها.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا

١١٣

يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))

تفسير المفردات

صاعقة : أي عذابا شديد الوقع كأنه صاعقة. قال المبرد : الصاعقة المرة المهلكة لأىّ شىء كان ، وهى في الأصل الصيحة التي يحصل بها الهلاك ، أو قطعة نار تنزل من السماء معها رعد شديد ، من بين أيديهم ومن خلفهم : أي من كل ناحية ، صرصرا : أي باردة تهلك بشدة بردها. أنشد قطرب قول الحطيئة في المديح :

المطعمون إذا هبّت بصرصرة

والحاملون إذا استودوا على الناس

استودوا : أي سئلوا الدية. نحسات واحدها نحسة (بكسر الحاء) أي نكدات مشئومات ، والهون : الذل.

المعنى الجملي

بعد أن أنكر عليهم عبادة الأنداد والأوثان ، وطلب إليهم ألا يعبدوا إلا الله الذي خلق السموات والأرض ، وزين السماء الدنيا بالمصابيح ، وأوجد في الأرض جبالا رواسى أن تميد بهم ، ثم أعرضوا عن كل ذلك ، لم يبق حينئذ طريق للعلاج.

ومن ثم أمر رسوله أن ينذرهم بحلول شديد النقم بهم إن هم أصروا على عنادهم ، كما نزل بعاد وثمود من قبلهم.

١١٤

الإيضاح

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك المكذبين لما جئتهم به من الحق : إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله فإنى أنذركم بحلول نقمته بكم كما حلت بالأمم الماضية التي كذبت رسلها كعاد وثمود ومن على شاكلتهما ممن فعل فعلهما حين جاءتهم الرسل في القرى المجاورة لبلادكم ، وأمروا أهلها بعبادة الله وحده ، فكذبوهم واستكبروا عن إجابة دعوتهم ، واعتذروا بشتى المعاذير كما ذكر ذلك سبحانه بقوله :

(قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قالوا إنا لا نصدق برسالتكم فما أرسل الله بشرا ، ولو أرسل رسلا لأنزل ملائكة ، وإذا فلا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا.

وقد تقدم في غير موضع دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها. وقوله : «بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ» ليس إقرارا منهم بكونهم رسلا ، بل ذكروه استهزاء بهم كما قال فرعون : «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ».

أخرج البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال «قال أبو جهل والملأ من قريش : قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ، ثم أتانا ببيان من أمره. فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر ، وعلمت من ذلك علما ، وما يخفى علىّ إن كان كذلك ، فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم هاشم ، أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم يجبه ، قال : لم تشتم آلهتنا وتضللنا؟ إن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا ، وإن تكن بك الباءة (الميل إلى قربان النساء) زوجناك عشر نسوة تختارهن ، أىّ بنات من

١١٥

شئت من قريش ، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغنى به ، ورسول الله ساكت ، فلما فرغ قال صلّى الله عليه وسلم : بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرّحمن الرّحيم.

كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا ـ حتى بلغ ـ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم ، فرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش ، فلما احتبس عنهم قالوا لا نرى عتبة إلا قد صبأ ، فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت ، فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا ، ثم قال : والله لقد كلمته فأجابنى بشىء ما هو بشعر ولا سحر ولا كهانة ، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته الرحم ، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب».

وقد ذكرنا هذا القصص قبل برواية أخرى ، وهذه الرواية أتم من سابقتها فأعدناها تكميلا للفائدة.

ولما بين سبحانه كفر قوم عاد وثمود إجمالا وبين معاذيرهما ـ أردف ذلك ذكر ما لكل منهما من الجناية وما حل به من العذاب فقال :

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟) أي فأما عاد فبغوا وعصوا ربهم ولم يقبلوا كلام الرسول الذي جاء لهم وقالوا من أشد منا قوة؟

حتى يستطيع قهرنا وإذلالنا ، وقد كانوا قوما طوال القامة شديدى الأسر ، فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هو بالعذاب ، وقد روى في قوّتهم روايات ليس بنا حاجة إلى تصديقها كقولهم : إن الرجل منهم كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده ويجعلها حيث يشاء.

فرد الله عليهم موبخا بقوله :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟) أي أما يفكرون فيمن يبارزون بالعداوة؟ إنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها ،

١١٦

وإن بطشه لشديد ، وإنه لقادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء ، فيقول :

(كُنْ فَيَكُونُ).

(وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي وكانوا يعرفون أن آياتنا التي أنزلناها على رسلنا حق لا مرية فيها ، ولكنهم جحدوها وعصوا رسله.

وقد يكون المراد : إنهم جحدوا الأدلة التكوينية التي نصبناها لهم ، وجعلناها حجة عليهم.

ثم ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه فقال :

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي فأرسلنا عليهم ريحا باردة تهلك بشدة بردها ، وإذا هبت سمع لها صوت قوىّ لتكون عقوبة لهم من جنس ما اغتروا به.

ثم بين سبحانه وقت نزول العذاب عليهم فقال :

(فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي في أيام مشئومات نكدات متتابعات كما قال في آية أخرى : «سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً».

ثم بين الغاية التي من أجلها نزل العذاب فقال :

(لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أنزلنا عليهم هذا العذاب كى نذيقهم الذل والهوان في الحياة الدنيا بسبب ذلك الاستكبار.

ثم أرشد إلى أن هذا العذاب هين يسير إذا قيس بعذاب الآخرة فقال :

(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي ولعذاب الآخرة أشد إهانة وخزيا من عذاب الدنيا ، وهم لا يجدون إذ ذاك نصيرا ولا معينا يدفعه عنهم.

وبعد أن ذكر قصص عاد أتبعه بقصص ثمود فقال :

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي وأما ثمود فبينا لهم الحق على لسان نبيهم صالح ، ودللناهم على سبل النجاة بنصب الأدلة التكوينية ، وإنزال الآيات التشريعية ، فكذبوه واستحبوا العمى على الهدى ، والكفر على الإيمان.

١١٧

ثم ذكر جزاءهم على ما اختاروه لأنفسهم فقال :

(فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي فأرسلنا عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا ، بما كانوا يكسبون من الآثام بكفرهم بالله وتكذيبهم رسله.

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي ونجينا صالحا ومن آمن معه من المؤمنين من ذلك العذاب : فلم يمسسهم سوء ولا نزل بهم مكروه ، بإيمانهم وتقواهم وصالح أعمالهم.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤))

تفسير المفردات

يوزعون : أي يحبسن أولهم ليلحق آخرهم لكثرتهم ؛ من قولهم ، وزعته : أي كففته ، جلودهم : أي جوارحهم ، أرداكم : أي أهلككم ، مثوى : أي مقام ، وإن يستعتبوا : أي يطلبوا العتبى والرضا ، من المعتبين : أي المجابين إلى ما يطلبون

١١٨

يقال أعتبنى فلان : أي أرضانى بعد إسخاطه إياى ، قال الخليل : تقول استعتبته فأعتبنى :

أي استرضيته فأرضانى ، قال النابغة في اعتذار يأته للنعمان بن المنذر :

فإن أك مظلوما فعبد ظلمته

وإن يك ذا عتبى فمثلك يعتب

المعنى الجملي

بعد أن بين كيف عاقب أولئك الجاحدين في الدنيا وأذاقهم عذاب الهون بما كانوا يكسبون ـ أردف ذلك ذكر عقابهم في الآخرة ، ليكون ذلك أتمّ للزجر ، وأكثر فى الاعتبار لمن اعتبر.

الإيضاح

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي واذكر أيها الرسول لقريش المعاندين لك حال الكفار يوم القيامة ، لعلهم يرتدعون ويزدجرون حين يساقون إلى النار ، فيحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا قاله السدى وقتادة وغيرهما.

وفي هذا إيماء إلى كثرة عددهم وشدة سوقهم ودفعهم.

(حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي حتى إذا وقفوا على النار شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجوارحهم بما كانوا يعملون فى الدنيا من المعاصي ، بعلامات متمايزة تدل على الأخلاق المختلفة ، لكل خلق منها علامة خاصة نحن لا نعرف الآن كنهها ، وربما كانت سوائل روحية ، كل سائل يدل على خلق من الأخلاق كما يكون في أنواع النبات والشجر روائح مختلفة ، فالعلم والحلم والنشاط وجب الناس لها سوائل جميلة ، والجهل والطيش والكسل وبغض الناس لها سوائل رديئة ، وتلك السوائل تلازمهم فتكون مشقية لهم ومضايقة ، أو مفرحة لهم ومنعمة ، وهكذا الأجسام بعد الموت لا تشبه نفس نفسا أخرى في أوصافها ، فهذه هى الشهادة التي تشهد بها أسماعهم وأبصارهم وجلودهم.

١١٩

ثم ذكر سبحانه أنهم لاموا جوارحهم على أداء الشهادة التي تلزمهم الحجة ، فحكى عنهم قولهم لها.

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟) أي وقالوا على جهة اللوم والمؤاخذة لجلودهم حين شهدوا عليهم ، لم شهدتم علينا؟ وقد كانوا في الدنيا مساعدين لهم على المعاصي ، فكيف يشهدون عليهم الآن؟.

فأجابوهم حينئذ معتذرين :

(قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي قالوا : إن الله جعل فينا من الدلالات الفعلية ما يقوم مقام النطق ، بل ما هو أفصح منها ، فشهدنا عليكم بما فعلتم من القبائح.

وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضحك فقال : هل تدرون مم أضحك؟ قلنا الله ورسوله أعلم ، قال : من مخاطبة العبد ربه ، يقول : ألم تجرنى من الظلم؟ قال : يقول بلى. قال فيقول : فإنى لا أجيز على نفسى إلا شاهدا منى. قال : يقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا ، وبالكرام الكاتبين شهودا : قال : فيختم على فيه فيقال لأركانه : انطقى ، فتنطق بأعماله ، قال ثم يخلّى بينه وبين الكلام ، قال : فيقول بعدا لكنّ وسحقا ، فعنكنّ كنت أناضل».

(وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فهو لا يخالف ولا يمانع ، وقد جعل فيكم دلائل واضحة كخطوط اليد والإبهام والأصوات وألوان الوجوه وأشكالها ، ولكنّ قليلا من الناس من يفطن إلى ذلك.

فمن قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداء قدر على إعادتكم ورجعكم إليه ، ومن ثم قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه مصيركم بعد مماتكم ، فيجازى كل نفس بما كسبت.

لا معقّب لحكمه ، وهو سريع الحساب.

١٢٠