تفسير المراغي - ج ٢٤

أحمد مصطفى المراغي

ثم وبختهم جلودهم على ما كانوا يفعلون في الدنيا فقالت لهم :

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) أي وما كنتم تستخفون حين تفعلون قبيح الأعمال ، وترتكبون عظيم الفواحش ـ بالحيطان والحجب حذرا من شهادة الجوارح عليكم ، بل كنتم تجاهرون بالكفر والمعاصي ، وتجحدون البعث والجزاء.

قال عبد الأعلى بن عبد الله الشامي فأحسن :

العمر ينقص والذنوب تزيد

وتقال عثرات الفتى فيزيد

هل يستطيع جحود ذنب واحد

رجل جوارحه عليه شهود؟

والمرء يسأل عن سنيه فيشتهى

تقليلها وعن الممات يحيد

(وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي ولكن ظننتم عند استتاركم من الناس مع عدم استتاركم من أعضائكم أن الله لا يعلم كثيرا مما كنتم تعملون من المعاصي فاجترأتم على فعلها.

والخلاصة ـ إنكم كنتم في الدنيا تستترون عن الناس خوف الفضيحة والعار حين ارتكاب الذنوب ، وما ظننتم أن أعضاءكم وجسمكم الأثيرى الذي هو على صورة الجسم الظاهري قد سطرت فيه جميع أعمالكم ، كأنه لوح محفوظ لها ، فلذلك ما كنتم تستترون عنها بترك الذنوب.

وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغى للمؤمن أن تمر عليه حال إلا وهو يفكر في أن الله رقيب عليه ، كما قال أبو نواس :

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل

خلوت ولكن قل علىّ رقيب

ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة

ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : «كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشى وثقفيان ، أو ثقفى وقرشيان ، قليل فقه قلوبهم ، كثير شحم

١٢١

بطونهم ، فتكلموا بكلام لم أسمعه ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟

فقال الآخر : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه ، وإذا لم نرفعه لم يسمعه ، فقال الآخر : إن سمع منه شيئا سمع كله ، قال : فذكرت ذلك للنبى صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : «وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ـ إلى قوله : مِنَ الْخاسِرِينَ».

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي وهذا الظن الفاسد الذي قد كان منكم في الدنيا وهو أن الله لا يعلم كثيرا من قبائح أعمالكم ومساويها هو الذي أوقعكم في مواقع التلف والردى ، فصرتم اليوم من الهالكين ، إذ صرفتم ما منحتم من أسباب السعادة إلى الشقاء ، فكفرتم نعم الخالق والرازق ، وانهمكتم فى الشهوات والمعاصي.

أخرج أحمد وأبو داود والطيالسي وعبد ابن حميد ومسلم ، وأبو داود وابن ماجه وابن مردويه عن جابر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى ، فإن قوما قد أرادهم سوء ظنهم بالله فقال الله : «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ».

قال العلماء : الظن قسمان :

(١) حسن ؛ وهو أن يظن بالله عز وجل الرحمة والفضل والإحسان ، قال صلّى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل «أنا عند ظن عبدى بي».

(٢) قبيح ؛ وهو أن يظن أن الله يعزب عن علمه بعض الأفعال.

وقال قتادة ، الظن نوعان : منج ومرد.

(١) فالمنجى قوله : «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» وقوله : «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ».

(٢) والمردي هو قوله : «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ».

١٢٢

وقال عمر بن الخطاب في هذه الآية : هؤلاء قوم كانوا يدمنون على المعاصي ، ولا يتوبون منها ، ويتكلمون على المغفرة ، حتى خرجوا من الدنيا مفاليس ، ثم قرأ : «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ».

وقال الحسن البصري : إن قوما ألهتهم الأمانى حتى خرجوا من الدنيا ومالهم حسنة ، ويقول أحدهم : إنى أحسن الظن بربي وقد كذب ، ولو أحسن الظن لأحسن العمل ، وتلا قول الله : «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ».

ثم أخبر عن حالهم فقال :

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي فإن أمسكوا عن الاستغاثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا وتكون النار مثوى لهم ومقاما.

(وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي وإن يبدوا معاذير فلن تقبل منهم ولا تقال لهم العثرات.

ونحو الآية قوله تعالى : «سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ».

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا

١٢٣

أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))

تفسير المفردات

وقيضنا : أي ويسرنا وهيأنا ، قرناء : واحدهم قرين : أي أخدانا وأصحابا من غواة الجن والإنس ، والغوا فيه : أي عارضوه باللغو والباطل حين يقرأ لتهوّشوا عليه ، دار الخلد : أي دار الإقامة المستمرة ، تحت أقدامنا : أي ندوسهما بهما انتقاما منهما.

المعنى الجملي

اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على الكفر والمعاصي أردف ذلك ذكر السبب الذي من أجله وقعوا في الكفر ، ثم حكى عنهم جناية أخرى وهى أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن أعملوا الحيلة في عدم إسماع الناس له حتى لا يتدبروا معناه ، فتشاغلوا حين قراءته برفع الأصوات وإنشاء الأشعار حتى يهوّشوا على القارئ ويغلبوا على قراءته ؛ ثم ذكر أنهم حين يقعون في العذاب الشديد يطلبون أن يروا من كانوا السبب في وقوعهم في الضلال من الجن والإنس ليدوسوهم تحت أقدامهم ، انتقاما منهم على أن صيروهم في هذه الهاوية.

الإيضاح

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي وسلطنا عليهم إخوانا وأعوانا من شياطين الجن والإنس ، فزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا من الضلالة والكفر واتباع الشهوات ، وما خلفهم من أمر الآخرة ، فألقوا إليهم أن لا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا حساب ، إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ،

١٢٤

فسهل عليهم فعل ما يشهون ، وركوب كل ما يتلذذون به من الفواحش.

(وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي ووجب عليهم من العذاب ما وجب على الذين كفروا من قبلهم ممن فعلوا فعلهم.

ثم علل استحقاقهم للعذاب فقال :

(إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) أي لأنهم استووا جميعا في الخسار والدمار ، واستحقوا اللعن والخزي في الحياة الدنيا والآخرة.

وبعد أن أخبر عن كفر قوم هود وصالح وغيرهم أخبر عن مشركى قريش وأنهم كذبوا بالقرآن فقال :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) أي وقال الذين كفروا بالله ورسوله : لا تنصتوا لسماع هذا القرآن ، وعارضوه باللغو والباطل بإنشاد الشعر والأراجيز حتى تهوّشوا على القارئ لعلكم تغلبون على قراءته ، وتميتون ذكره.

وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته ، فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون : الغوا فيه بالبكاء والصفير وإنشاد الشعر.

قال ابن عباس : قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدرى ما يقول : وقد يكون المعنى : لا تطيعوا. من قولهم : سمعت لك : أي أطعتك.

ثم أوعد الكفار بالعذاب الشديد فقال :

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلنذيقن الكافرين عذابا لا يحاط بوصفه ، ولنجازينهم بأسوإ أعمالهم ، لأن أعمالهم الحسنة كصلة الأرحام وإكرام الضيف قد أحبطها الكفر ، ولم يبق لهم إلا القبيح ، ومن ثم لم يجازوا إلا على السيئات.

١٢٥

وفي هذا تعريض بمن لا يخشع ولا يتدبر حين سماع القرآن ، وتهديد ووعيد لمن بصدر منه حين سماع القرآن ما يهوّش على القارئ ويخلّط عليه في القراءة.

ثم بين العذاب الشديد الذي يحيق بهم فقال :

(ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) أي ذلك الجزاء المعدّ لأعداء الله هو النار.

(لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) أي إنهم مخلدون فيها أبدا ، لا انقطاع لعذابها ، ولا انتقال منها.

ثم ذكر أن هذا جزاء لما عملوا فقال :

(جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي هى جزاء لهم على جحودهم بآياتنا ، واستكبارهم عن سماعها.

ثم بين أنهم حين وقوعهم في العذاب الشديد يطلبون الانتقام ممن أضلوهم من شياطين الإنس والجن فقال :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي وقال الكافرون وهم يتقلبون في العذاب : ربنا أرنا شياطين الإنس والجن الذين أوقعونا في الضلال ندسهم تحت أقدامنا انتقاما منهم ومهانة لهم.

وقصارى ذلك ـ إنهم طلبوا من ربهم أن يريهم من أضلهم من فريقى الجن والإنس من الرؤساء الذين كانوا يزّينون لهم الكفر ، والشياطين الذين كانوا يوسوسون لهم ويحملونهم على المعاصي.

والشياطين على ضربين : جنّى وإنسيّ ، قال تعالى : «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» وقال : «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ».

وقال علىّ كرم الله وجهه : هما ابن آدم الذي قتل أخاه وإبليس أي لأنهما هما اللذان سنّا المعصية.

١٢٦

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢))

تفسير المفردات

استقاموا : أي ثبتوا على الإيمان ولم يرجعوا إلى الشرك ، أولياؤكم : أي أعوانكم فى شئونكم ، تدّعون : أي تتمنون وتطلبون ، النزل : ما يهيأ للضيف ليأكله حين نزوله.

المعنى الجملي

بعد أن أسلف القول في وعيد الكفار بما لم يبق بعده في القوس منزع ـ أعقبه بهذا الوعد الشريف للمؤمنين كما هى سنة القرآن من إتباع أحدهما بالآخر كما جاء في قوله : «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ».

قال عطاء عن ابن عباس نزلت هذه الآية في أبى بكر الصديق :

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي إن الذين قالوا ربنا الله اعترافا بربوبيته ، وإقرارا بوحدانيته ، ثم ثبتوا على ذلك فلم تزلّ أقدامهم ، ويدخل في هذا كل العبادات والاعتقادات.

١٢٧

قال أبو بكر رضى الله عنه : الاستقامة ألا يشركوا بالله شيئا. وأخرج أحمد وعبد ابن حميد والدارمي والبخاري في تاريخه ومسلم والنسائي وابن ماجه وابن حبّان عن سفيان بن عبد الله الثقفي «أن رجلا قال : يا رسول الله مرنى بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك ، قال : «قل آمنت بالله ثم استقم» قلت : فما أتّقى؟ فأومأ إلى لسانه» قال الترمذي حسن صحيح.

والخلاصة ـ الاستقامة : الاعتدال في الطاعة اعتقادا وقولا وفعلا مع الدوام على ذلك.

(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) من عند الله سبحانه بالبشرى التي يريدونها من جلب نفع ، أو دفع ضر ، أو رفع حزن؟ أي بكل ما يعنّ لهم من الشئون الدنيوية والدينية مما يشرح صدورهم ، ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام ، كما أن الكفار يغويهم قرناء السوء بتزيين المعاصي وارتكاب الآثام.

قال وكيع : البشرى تكون في ثلاثة مواطن : عند الموت ، وفي القبر ، وعند البعث.

(أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) أي لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمور الآخرة ، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل وولد ومال.

وقال عطاء : لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول ، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإنى أغفرها.

(وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي ويقال لهم : أبشروا بالجنة التي وعدتم بها على ألسنة الرسل في الدنيا ، فإنكم واصلون إليها ، مستقرون بها ، خالدون في نعيمها.

ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من هذا كله فقال :

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي نحن أعوانكم في أمور دنياكم ، نلهمكم الحق ، ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم في دنياكم ، وكذلك نكون معكم فى الآخرة ، نؤمّنكم من الوحشة في القبور ، وعند النفخة في الصور ، ويوم البعث والنشور ، ونجاوز بكم الصراط المستقيم ، ونوصلكم إلى جنات النعيم.

١٢٨

وقصارى ذلك ـ نحن المتولّون حفظكم وولايتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ومن كان الله وليّه فاز بكل مطلب ، ونجا من كل مخافة.

(وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من صنوف اللذات وأنواع النعم.

(وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أي ولكم فيها ما تتمنون وتطلبون.

ونحو الآية قوله : «وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ».

والجملة الأولى باعتبار شهوات أنفسهم ، والثانية باعتبار ما يطلبون سواء أكان مشتهى لهم أم لا ، إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهى كالفضائل العلمية ونحوها (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي أعطاكم ربكم ذلك كرامة من لدنه ، وهو الغفور لذنوبكم ، الرّحيم بكم أن يعاقبكم بعد توبتكم.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

تفسير المفردات

دعا إلى الله : أي دعا إلى توحيده ، المسلمين : أي الخاضعين ، الحسنة : ما ترضى الله ويتقبلها ، والسيئة : ما يكرهها ويعاقب عليها ، ادفع : أي ردّ ، والحميم : الصديق ، وما يلقاها : أي يتقبلها ويحتملها ، حظّ : أي نصيب وافر من الخير ، ينزعنك : أي يوسوسنّ لك ، وأصل النزغ : النخس ، فاستعذ بالله : أي التجئ إليه.

١٢٩

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن قرناء السوء يدعون إلى المعاصي ـ أردف ذلك ذكر حال أضدادهم الذين يدعون الناس إلى توحيد ربهم وطاعته ، ثم أعقب هذا بأن الحسنة والسيئة لا يستويان ثوابا عند الله ، تم أمر رسوله بدفع سفاهات المشركين وجهالاتهم بطريق الحسنى ، لما في ذلك من تآلف القلوب ، وارعواء النفوس عن غيّها ، وثوبها إلى رشدها ، وأرشد إلى أن هذه فعلة لا يتقبلها إلى الصابرون على احتمال المكاره ، ومن لهم حظ عظيم من الثواب عند الله ، ثم ختم ذلك بتلك النصيحة الذهبية ، وهى أنه إذا صرف الشيطان المرء عن شىء مما شرعه الله فليتعوذ من شره ولا يطعه في أمره ، والله سميع لما يقول ، عليم بكل ما يفعل ، وهو المجازى له على ذلك.

الإيضاح

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟) أي لا أحد أحسن قولا ممن جمع بين خصال ثلاث :

(١) الدعاء إلى توحيد الله وطاعته ، قال ابن سيرين والسّدى وابن زيد والحسن : والداعي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول : هذا رسول الله ، هذا حبيب الله ، هذا ولىّ الله ، هذا صفوة الله ، هذا خيرة الله ، هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله ، أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه.

(٢) العمل الصالح بعمل الطاعات ، واجتناب المحرمات.

(٣) أن يتخذ الإسلام دينا ويخلص إلى ربه ، من قولهم : هذا قول فلان أي مذهبه ومعتقده.

وقد يكون المراد أنه يتلفظ بذلك ابتهاجا بأنه منهم وتفاخرا به مع قصد الثواب.

١٣٠

وبعد أن ذكر محاسن الأعمال التي بين العبد وربه ـ ذكر محاسن الأعمال التي بين العباد بعضهم مع بعض ترغيبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصبر على أذى المشركين ومقابلة إساءتهم بالإحسان فقال :

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) أي ولا تتساوى الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها ، والسيئة التي يكرهها ويعاقب عليها.

وقد يكون المعنى ـ ولا تستوى دعوة الرسول إلى الدين الحق بالطرق المثلى ، والصبر على سفاهة الكفار ، وترك الانتقام منهم ـ وما أظهروه من الغلظة والفظاظة فى قولهم : «قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» وقولهم : «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ».

والخلاصة ـ إن فعلك أيها الرسول حسنة ، وإن فعلهم سيئة ، فإذا أتيت بهذه الحسنة استحققت التعظيم في الدنيا ، والمثوبة في الآخرة ، وهم بضد ذلك ، فلا ينبغى أن يكون إقدامهم على السيئة مانعا من الاشتغال بالحسنة.

ثم ذكر بعض الحسنات ووضحها بذكر بعض ضروبها فقال :

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هى أحسن الطرق ، فقابل إساءتهم بالإحسان إليهم ، والذنب بالعفو ، والغضب بالصبر والإغضاء عن الهفوات ، واحتمال المكاره ، فإنك إن صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ولم تقابل سفههم بالغضب ، ولا أذاهم بمثله ، استحيوا من ذميم أخلاقهم ، وتركوا قبيح أفعالهم.

ثم بين نتائج الدفع بالحسنى فقال :

(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي إنك إن فعلت ذلك انقلبوا من العداوة إلى المحبة ، ومن البغض إلى المودة ، قال عمر : ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، وقال ابن عباس : أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر

١٣١

عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم.

وروى أن رجلا شتم قنبرا مولى علىّ بن أبى طالب ، فناداه علىّ يا قنبر دع شاتمك ، واله عنه ترض الرّحمن ، وتسخط الشيطان.

وقالوا : ما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه ، ولله در القائل :

وللكفّ عن شتم اللئيم تكرما

أضرّ له من شتمه حين يشتم

وقال آخر :

وما شىء أحبّ إلى سفيه

إذا سبّ الكريم من الجواب

متاركة السفيه بلا جواب

أشدّ على السفيه من السبّاب

وقال محمود الوراق :

سألزم نفسى الصفح عن كل مذنب

وإن كثرت منه لدىّ الجرائم

فما الناس إلا واحد من ثلاثة

شريف ومشروف ومثل مقاوم

فأما الذي فوقى فأعرف قدره

وأتبع فيه الحق والحق لازم

وأما الذي دونى فإن قال صنت عن

إجابته عرضى وإن لام لائم

وأما الذي مثلى فإن زلّ أو هفا

تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم

وقال آخر :

إن العداوة تستحيل مودة

بتدارك الهفوات بالحسنات

قال مقاتل : نزلت الآية في أبى سفيان بن حرب كان معاديا للنبى صلّى الله عليه وسلم فصار له وليّا في الإسلام ، حميما بالمصاهرة.

ثم نبه إلى عظيم فضل هذه الطريق بقوله :

(وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا الصابرون

١٣٢

على تحمل المكاره وتجرّع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام ، فإن ذلك يشق على النفوس ، ويصعب احتماله في مجرى العادة إلا من عصم الله.

وقال أنس في تفسير ذلك : الرجل يشتمه أخوه فيقول : إن كنت صادقا غفر الله لى ، وإن كنت كاذبا غفر الله لك.

(وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي وما يتقبلها إلا ذو نصيب وافر من السعادة فى الدنيا والآخرة.

قال قتادة : الحظ العظيم الجنة ، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.

ثم ذكر طريقا لمنع تهييج الشر ودفع الغضب إذا بدت بوادره فقال :

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي وإن وسوس إليك الشيطان ليحملك على مجازاة المسيء فاستعذ بالله من كيده وشره ، واعتصم من خطراته ، إنه هو السميع لا ستعاذتك منه ، واستجارتك به من نزغاته ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك ، العليم بما ألقى في روعك من نزغاته ، وحدّثتك به نفسك ، وما قصدت من صلاح ، ونويت من إحسان.

ومن شياطين الإنس من يفعل مثل هذا ، فيصرف عن الدفع بالتي هى أحسن ، فيقول لك : إن فلانا عدوك الذي فعل بك كيت وكيت ، فانتهز الفرصة ، وخذ ثأرك منه لتعظم في عينه وأعين الناس ، ولا يظننّ فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة إلى نحو أولئك من العبارات المثيرة للغضب التي ربما لا تخطر ببال شياطين الجن ـ نعوذ بالله من شر كل شيطان.

والخلاصة ـ إن صرفك الشيطان عما شرعت فيه من الدفع بالحسنى ، فاستعذ بالله من شره ، وامض لشأنك. ولا تطعه.

١٣٣

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

تفسير المفردات

الآية : هى البرهان والحجة ، يسأمون : أي يملّون ، خاشعة : أي جامدة يابسة لا نبات فيها ، اهتزت : أي تحركت ، وربت : أي انتفخت.

المعنى الجملي

لما ذكر في الآيات السابقة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى ـ أردفه ذكر الدلائل على وجوده تعالى وقدرته وحكمته ، تنبيها إلى أن الدعوة إلى الله هى تقرير الدلائل على ذاته وصفاته ، ثم ذكر منها الدلائل الفلكية وهى الليل والنهار والشمس والقمر ، ثم أتبعها بآية أرضية تشاهد رأى العين في كل حين وهى حال الأرض حين خلوّها من المطر والنبات ، ثم حالها بعد نزول المطر ، فهى تنتعش بعد أن كانت ميتة ، وتهتز بعد أن كانت ساكنة ، والذي أحياها هو الذي يحيى الموتى ، إنه على كل شىء قدير.

الإيضاح

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي ومن حجج الله تعالى على خلقه ودلالتها على وحدانيته وعظم سلطانه ـ الليل والنهار ، ومعاقبة كل منهما صاحبه ،

١٣٤

والشمس ونورها ، والقمر وضياؤه ، وتقدير منازلهما في فلكيهما ، واختلاف سيرهما فى السماء ، ليعرف بذلك مقادير الليل والنهار والأسابيع والشهور والأعوام ، وبذلك تضبط المعاملات وأوقات العبادات.

ولما كانت الشمس والقمر من أجلّ الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلى نبه إلى أنهما مخلوقان مسخران له تعالى وهما تحت قهره وسلطانه ، فلا تعظموهما وعظموا خالقهما فقال :

(لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي لا تسجدوا أيها الناس للشمس والقمر ، فإنهما إنما يجريان بمنافعكم بإجراء الله إياهما طائعين له في جريهما وهما لا يستطيعان لكم نفعا ولا ضرا ، فله فاسجدوا ، وإياه فاعبدوا دونهما ، لأنهما لا فضيلة لهما في أنفسهما ، فيستحقا بها العبادة من دون الله ، ولو شاء الله لأعدمهما أو طمس نورهما.

وفي هذا رد على الصابئة الذين عبدوا الكواكب والنجوم ، وزعموا أنهم بعبادتهم إياها يعبدون الله ، فنهوا عن ذلك.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي فإن استكبر هؤلاء المشركون الذين يعبدون هذه الكواكب وأبوا إلا أن يسجدوا لها وحدها دون الله ـ فالله لا يعبأ بهم ، فالملائكة الذين في حضرة قدسه وهم خير منهم لا يستكبرون عن عبادته ، بل يسبحون له ويصلون ليلا ونهارا ، وهم لا يفترون عن ذلك ولا يمّلون.

ولما ذكر الدلائل الفلكية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي ومن الدلائل على قدرته تعالى على البعث ، وإحياء الموتى بعد بلاها ، وإعادتها لهيئتها كما كانت من بعد فنائها ـ أنك ترى الأرض يابسة غبراء لا نبات بها ولا زرع ،

١٣٥

فإذا نزل عليها الغيث من السماء تحركت بالنبات ، وانتفخت ، وأخرجت ألوان الزرع والثمار ، كما يشاهد من ارتفاع الأرض وانتفاخها ، ثم تصدّعها وتشققها إذا حان ظهور النبات منها ، وتراه يسمو في الجوّ ويغطى قشرتها ، ثم تتشعب عروقه ، وتغلظ سوقه.

(إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الذي أحيا هذه الأرض الدارسة ، وأخرج منها النبات ، وجعلها تهتز بالزرع ـ قادر على أن يحيى أموات بنى آدم بعد مماتهم ، وهو القدير على كل شىء ، لا يعجزه شىء كائنا ما كان.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢))

تفسير المفردات

يقال : ألحد الحافر في الأرض : إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق منها ، والمراد بالملحدين المنحرفون في تأويل الآيات بحملها على المحامل الباطلة ، والذكر : القرآن ، من بين يديه ومن خلفه : أي من جميع جهاته ، حكيم : أي في جميع أفعاله ، حميد : أي محمود إلى جميع خلقه بكثرة نعمه عليهم.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن الدعوة إلى دين الله أسمى المقاصد ، وأنها إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد وصحة البعث يوم القيامة ـ أعقب هذا بتهديد من ينازع

١٣٦

فى تلك الدلائل بإلقاء الشبهات ، ثم هددهم بضروب من التهديد ، فهددهم بقوله : «لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا» وبقوله : «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» وبقوله : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ» إلخ.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي إن الذين يميلون عن الحق فى حججنا تكذيبا بها وجحودا لها ـ نحن بهم عالمون لا يخفون علينا ، ونحن لهم بالمرصاد إذا وردوا علينا ، وسنجازيهم بما يستحقون.

ولا يخفى ما في ذلك من شديد الوعيد كما يقول الملك المهيب : إن الذين ينازعوننى فى ملكى أعرفهم ولا شك ، فهو يريد تهديدهم وإلقاء الرعب في قلوبهم.

ثم بين كيفية الجزاء والتفاوت بين المؤمن والكافر فقال :

(أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟) أي أفمن يلقى في النار لإلحاده بالآيات ، وتكذيبه للرسول خير أم من آمن بها ، وجاء يوم القيامة من الآمنين حين يجمع الله الخلائق للعرض عليه والحكم بينهم بالعدل؟ لا شك أنهما لا يستويان.

وظاهر الآية العموم وتمثيل حالى المؤمن والكافر ، وقيل المراد بمن يلقى في النار أبو جهل ، وبمن يأتى آمنا النبي صلّى الله عليه وسلم.

وعن بشير بن تميم قال : نزلت في أبى جهل وعمار بن ياسر.

وبعد أن أبان لهم عاقبة الملحدين بالآيات والمؤمنين بها ، هددهم بقوله :

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) فقد علمتم مصير المسيء والمحسن ، فمن أراد أحد الجزاءين فليعمل له فإنه ملاقيه.

(إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنه بأعمالكم ذو خبرة وعلم لا تخفى عليه خافية منها ولا من غيرها ، وهو مجازيكم بحسب أعمالكم.

١٣٧

ثم بين أولئك الملحدين بقوله :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) أي إن الملحدين هم الذين جحدوا هذا القرآن وكذبوا به حين جاءهم.

ثم وصف الذكر بقوله :

(١) (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي وإنه لكتاب عزيز عن أن يعارض أو يطعن فيه الطاعنون ، منيع عن كل عيب ، محمىّ بحماية الله.

(٢) (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي ليس للبطلان إليه سبيل ، فلا تكذبه الكتب السابقة عليه كالتوراة والإنجيل ، ولا يجىء من بعده كتاب يكذبه ، قاله سعيد بن جبير والكلبي.

وقال الزجاج : معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه ، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه ، وبه قال قتادة والسدّى.

وقصارى ذلك ـ إن الباطل لا يتطرّق إليه ، ولا يجد لديه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه ، فكل ما فيه حق وصدق ، وليس فيه ما لا يطابق الواقع.

(٣) (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي وهو تنزيل من عند ذى الحكمة بتدبير شئون عباده ، المحمود على ما أسدى إليهم من النعم التي منها تنزيل هذا الكتاب ، بل هى أجلّها.

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ

١٣٨

مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))

المعنى الجملي

بعد أن هدد الملحدين في آياته ـ سلّى رسوله على ما يصيبه من أذى المشركين وطعنهم في كتابه ، وحثه على الصبر ، وألا يضيق صدره بما حكاه عنهم من نحو قولهم : «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ. وقولهم : فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ» فما قاله أولئك الكفار في شأنه وشأن ما أنزل إليه من القرآن لا يعدو شأن ما قاله أمثالهم من الأمم السابقة ، ثم أجاب عن شبهة قالوها ، وهى هلا نزل القرآن بلغة العجم ـ بأنه لو نزل كما يريدون لأنكروا أيضا ، وقالوا ما لنا ولهذا؟. ثم ذكر أن القرآن هداية وشفاء للمؤمنين ، والذين لا يؤمنون به في آذانهم صمم عن سماعه ، ثم ذكر أن الاختلاف فى شأن الكتب عادة قديمة للأمم ، فقومك ليسوا ببدع فيها بين الأمم ، ثم أبان أن المرء وما عمل ، فمن أحسن فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، ولا يظلم ربك أحدا.

الإيضاح

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أي ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذبون ما جئتهم به من عند ربك إلا مثل ما قالته الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم ، فاصبر على ما نالك منهم من أذى كما صبر أولو العزم من الرسل ، وقد يكون المعنى ـ ما يقال لك من التوحيد وإخلاص العبادة لله إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ، فإن الشرائع كلها متفقة على ذلك وإن اختلفت في غير هذا ، تبعا للزمان والمكان.

١٣٩

ونحو الآية على المعنى الأول قوله : «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ».

وعلى المعنى الثاني قوله : «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ».

ثم ذكر علة أمره بالصبر فقال :

(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي إن ربك لذو مغفرة للتائبين إليه من ذنوبهم بالصفح عنهم ، وذو عقاب مؤلم لمن أصرّ على كفره ومات على ذلك قبل التوبة.

ثم أجاب عن شبهة قالوها ، وهى : هلا نزل القرآن بلغة العجم فقال :

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟) أي ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزل إليك بلغة العجم ـ لقال قومك من قريش : هلا بينت أدلته وما فيه من حكم وأحكام بلغة العرب حتى نفقهه ونعلم ما هو وما فيه ، وكانوا يقولون منكرين : أقرآن أعجمى ولسان المرسل إليهم عربى؟

وخلاصة ذلك ـ لو نزل بلسان أعجمى لقالوا هلا بينت آياته باللسان الذي نفهمه ، ولقالوا : أكلام أعجمى والمرسل إليهم عرب خلّص؟

ثم بين حال القرآن لدى المؤمنين والكافرين فقال :

(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي قل لهم ردّا على قولهم «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» : إن هذا القرآن للذين صدقوا بما جاءهم به من عند ربهم ـ هاد إلى الحق ، شاف لما في الصدور من ريبة وشك ، ومن ثم جاء بلسانهم معجزا بيّنا في نفسه مبينا لغيره.

ونحو الآية قوله : «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ».

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي والذين لا يؤمنون بالله

١٤٠