المعلوم أنّ هذا هو ما تتوخّاه السّلطة ، فإنّ في ذلك دعماً لجورها واستبدادها.
وأين هذا من القول بالعدل والدعوة إلى التفكّر ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوب الخروج على السلطان الجائر ونصب الإمام العادل ، إلى غير ذلك من الأُصول الّتي كانت المعتزلة تتبنّاه ولم تكن لصالح الحكومة.
هذا وذاك صار سبباً لرجوع السّلطة إلى أهل الحديث وتقديمهم على المعتزلة.
١٠ ـ إنّ للّه سبحانه سنّة في الأقوام والأُمم عبّر عنها في الكتاب العزيز بقوله :
( وتلك الأيّام نداولها بين النّاس ) ( آل عمران / ١٤٠ ) فلا ترى أُمّة في ذروة العزِّ دائماً ولا في حضيض الذلّ كذلك. نعم لتحقّق السنّة وتبلورها في المجتمع أسباب وعلل ربّما يكون ما ذكرنا من الأسباب بعضها.
كان مشايخ الاعتزال وأئمّتهم ذوي قرائح خصبة ، وكفاءات خاصّة في نضد القريض وارتجال الخطب. فكان إلقاء الكلام على الوجه البليغ ، المطابق لمقتضى الحال ، أحد أسلحتهم الفتّاكة في باب المناظرة. ومن المحتمل أيضاً أنّ تسمية علم الكلام به لأنّ المعتزلة هم الأُسس لتدوين علم الكلام بين أهل السنّة ، وبما أنّهم قد بلغوا الذّروة والسّنام في البلاغة والفصاحة وإلقاء الكلام ، سمّيت صناعتهم بأوصافهم وخصوصيّاتهم ، فأطلقوا على منهجهم الفكري لفظ الكلام وعلمه. ويظهر ذلك من الرّجوع إلى تاريخ حياتهم ، وقد عرفت أنّ واصل بن عطاء مع أنّه كان به لثغة بالرّاء ولكن كان يتجنّب عن الراء في خطبه ، فيتكلّم بالقمح مكان البُر ، والغيث مكان المطر. ولم يكن التفوّق في البلاغة مختصّاً به ، بل هو الغالب على أئمّة المعتزلة. فلا عجب لأن يتركوا كتباً قيّمةً في مجالات العقيدة والأدب والتفسير ، غير أنّ الدهر لعب بكتبهم ،
__________________
١ ـ هذا هو البحث الثاني الذي وعدنا به في صدر خاتمة المطاف.