إلى غير ذلك من الأدلّة الّتي أقامها القاضي على نفي الجبر ، فلا يجد الإنسان في كتابه ما يثبت به التّفويض ولو بصورة الدّليل.
٦ ـ إنّ فكرة التّفويض فكرة ثنويّة لا يعرج عليها مسلم واع ، عارف بالكتاب والسنّة وبدايات الفلسفة الإلهيّة ، ولا ينطق بها من وقف على موقف الممكن من الواجب ، وواقعيّة العلل والمعاليل الامكانيّة بالنّسبة إلى الواجب المكوِّن لها بأسرها ، فإنّ صفحة الوجود الامكاني صفحة فقيرة متدلّية بالذات قائمة بالغير ، ذاتاً كان أم فعلاً. ونسبة الوجود الامكاني إلى الوجود الواجبي ، كنسبة الوجود الحرفي إلى الاسمي. وعندئذ كيف يعقل لموجود امكاني الاستقلال في التّأثير والفعل من دون أن يستند إلى الواجب ويعتمد عليه.
وبعبارة ثانية : كما أنّه ليس للمعنى الحرفي الخروج عن إطار المعنى الاسمي في المراحل الثلاث : التصور ، والدلالة ، والتحقّق في الخارج ، فهكذا المعلول الامكاني بهويّته وأفعاله ، فليس له الخروج عن إطار العلّة الواجبة في حال من الحالات.
هذا ، وقد أوضحنا بطلان التّفويض كتاباً وعقلاً في أبحاثنا الكلاميّة (١).
٧ ـ هنا مسألتان :
الاُولى : هل أفعال العباد مفوّضة إليهم أنفسهم أو لا؟
الثانية : هل الذّوات الامكانيّة محتاجة إلى الواجب في حدوثهم فقط ، أو في حدوثهم وبقائهم؟ فمن قال بالأوّل وجب له القول بالتّفويض في الأفعال بوجه أولى ، لأنّ الذات إذا كانت غنيّة عن الواجب في بقائه ، فأولى أن يكون كذلك في أفعالها.
قال الشيخ الرئيس في إشاراته : « وقد يقولون إنّه إذا أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل ، حتّى إنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجوداً كما يشاهدونه من فقدان البنّاء وقوام البناء ، وحتّى إنّ كثيراً منهم لا يتحاشى أن يقول : لو جاز على الباري تعالى
__________________
١ ـ لاحظ « الالهيات في الكتاب والعقل والسنة » الجزء الثاني ٣٢١ ـ ٣٣١.