وبعبارة ثانية : كان المذهب في أفعال العباد أحد أمرين : كون أفعالهم مخلوقة للّه مباشرة وبلا واسطة ، أو كون أفعالهم مخلوقة للعبد كذلك. فأهل الحديث والأشاعرة على الأوّل ، والمعتزلة على الثاني. لكنّ القول بالثاني ليس بمعنى انقطاع عمل العباد عن الله سبحانه ، وعدم انتهاء سلسلة العلل إلى الحقّ عزّ اسمه.
نعم ، لم يكن الأمر بين الأمرين شيئاً مفهوماً لديهم حتّى يعتقدوا به ، لأنّه من الكنوز العلميّة الّتي ظهرت من معادن العلم وأهل بيت النبوّة. ولكن عدم الوقوف على هذا المذهب غير الاعتقاد على التّفويض والاذعان بالمعنى الباطل الّذي لا يفارق الشّرك.
٥ ـ إنّ ما استدلّ به القاضي على مذهبه لا يثبت سوى نفي الجبر وكون أفعال العباد غير مخلوقة للّه سبحانه. وأمّا التّفويض الّذي اتّهم به ، فلا تثبته أدلّته ، وإليك بعض ما استدلّ به على ردّ الخصم على وجه الاجمال :
الأوّل : قال : « والّذي يدلّ على ذلك أن نفصل بين المحسن والمسيء ، وبين حسن الوجه وقبيحه. فنحمد المحسن على إحسانه ونذمّ المسيء على إساءته. ولا تجوز هذه الطّريقة في حسن الوجه وقبيحه. فلولا أنّ أحدهما متعلّق بنا بخلاف الآخر ، لما وجب هذا الفصل » (١).
الثاني : قال : « لو صحّ الجبر لزمهم التّسوية بين الرسول وإبليس ، لأنّ الرسول يدعوهم إلى خلاف ما أراد الله تعالى منهم ، كما أنّ إبليس يدعوهم إلى ذلك ، بل يلزمهم أن يكون حال الرسول أسوأ من حال إبليس » (٢).
الثالث : قال : « يلزم قبح مجاهدة الكفّار ، لأنّ للكفرة أن يقولوا لماذا تجاهدونا؟ فإن كان جهادكم إيّانا على ما لا يريده الله تعالى منّا ولا يحبّه ، فالجهاد لكم أولى وأوجب ، وإن كان الجهاد لنا على ما خلق فينا ... فذلك جهاد لا معنى له » (٣).
__________________
١ ـ شرح الاُصول الخمسة : الصفحات ٣٣٣ و٣٣٥ و٣٣٦.
٢ ـ شرح الاُصول الخمسة : الصفحات ٣٣٣ و٣٣٥ و٣٣٦.
٣ ـ شرح الاُصول الخمسة : الصفحات ٣٣٦.