الجهات ، كما ذكرنا جُملاً من ذلك في الفصل الرابع من الباب الثالث ، ويأتي مفصّلاً في المقالة التاسعة من المقصد الثاني ، وكفى في ذلك ما مرّ من سكوته عن كتابة الكتاب الذي أراد أن يكتب في مرضه لمّا رأى معارضة بعض أصحابه ، وكذا غير ذلك ممّا سيأتي في المقالة المذكورة ، وكذا سلوكه مع المنافقين وأشباههم ، وكمال جهده في عدم بروز بواطن أحوالهم ، بحيث لم يكاشفهم ولم يتعرّض لتعيين أشخاصهم وإلزامهم بتصحيح بواطن عقائدهم المستلزم للقتل أو النفي أو نزول العذاب عليهم عند المخالفة .
حتّى أنّه كان لم يزل يصبر على أذاهم ، ويحشّمهم ويقرّبهم ويسمع كلامهم ويُجمل معهم بالكلام والمواجهة ونحو ذلك ، كما هو صريح قوله تعالى : ( وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) (١) ، وقد قال أيضاً : ( وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) (٢) وأمثال ذلك ممّا ينادي بأنّ اللّه تعالى لم يكن يريد مكاشفتهم أيضاً دفعاً للتعذيب في الدنيا ، حتّى أنّه لمّا أمره اللّه تعالى في الأواخر بترك مراعاتهم قال له : ( وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ) (٣) ، ومنعه عن الصلاة عليهم إذا مات أحد منهم (٤) ، ونحو ذلك ممّا يدلّ على عدم إرادة المكاشفة معهم ما داموا معاشرين معه .
ألا ترى أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لم يدعُ عليهم ولا على غيرهم من الكفّار بالاستئصال ، حتّى على أهل نجران يوم المباهلة ، ورضي عنهم بالمصالحة ،
__________________
(١) سورة المنافقون ٦٣ : ٤ .
(٢) سورة محمّد ٤٧ : ٣٠ .
(٣) سورة المزّمّل ٧٣ : ١٠ .
(٤) إشارة إلى الآية : ٨٤ في سورة التوبة : (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهمْ مَاتَ أَبَداً . . .) .