وكانوا من أشراف الروم ، وكانوا ثمانية نفر بكوا وتضرعوا إلى الله وجعلوا يقولون : ربن رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا إن عبدنا غيره اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة ، وارفع عنهم هذا البلاء حتى يعلنوا عبادتك ، فبينما هم على مثل ذلك وقد دخلوا في مصلى لهم أدركهم الشرط فوجدوهم وهم سجود على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله ، فقالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك انطلقوا إليه ثم خرجوا فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس ، فقالوا : تجمع الناس للذبح لآلهتك وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يستهزءون بك ويعصون أمرك ، فلما سمع بذلك بعث إليهم فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة وجوههم بالتراب. فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم أسوة لسراة (١) أهل مدينتكم؟ فاختاروا إما أن تذبحوا لآلهتنا وإما أن أقتلكم (٢) ، فقال مكسلمينا وهو أكبرهم سنا : إن لنا إلها ملأ السموات والأرض عظمة لن ندعو من دونه إلها أبدا له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا ، إيّاه نعبد وإيّاه نسأل النجاة والخير ، فأما الطواغيت فلن نعبدها أبدا فاصنع بنا ما بدا لك.
وقال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال [مكسلمينا](٣) ، فلما قالوا ذلك أمر فنزع عنهم لبوسا كانت عليهم من لبوس عظمائهم ، ثم قال : سأفرغ لكم فأنجز لكم ما أوعدتكم من العقوبة وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلّا إني أراكم شبانا حديثة أسنانكم ، فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تذكرون فيه وتراجعون عقولكم ، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم.
ثم أمرهم فأخرجوا من عنده وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم قريبا منهم لبعض أموره ، فلما رأى الفتية خروجه بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم [وأن يفتك بهم](٤) فأتمروا بينهم أن يأخذ كل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها ويتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له مخلوس ، فيمكثون فيه ويعبدون الله حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء ، فلما قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فأخذ نفقة فتصدق منها ، ثم انطلقوا بما بقي معهم واتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف ، فلبثوا فيه. قال كعب الأحبار : مروا بكلب فتبعهم فطردوه [فعاد] ففعلوا (٥) ذلك مرارا فقال لهم الكلب : يا قوم ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباب الله ، فناموا حتى أحرسكم.
وقال ابن عباس : هربوا ليلا من دقيانوس ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعه كلبه فخرجوا من البلد إلى الكهف وهو قريب من البلد.
قال ابن إسحاق : فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ابتغاء وجه الله ، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا وكان من أحملهم وأجلدهم ، وكان إذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ثم يأخذ ورقه فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا ويتجسس لهم الخبر هل ذكر هو وأصحابه بشيء ، ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا بذلك ما لبثوا.
__________________
(١) في المطبوع «لسادات من».
(٢) في المطبوع «أقتلنكم».
(٣) زيد في المطبوع.
(٤) زيادة عن المخطوط.
(٥) في المطبوع «ففعل».