ونجيب عن ذلك : بأنّه يجب أن نعلم أنّ الأخلاق العقلية ، كأخلاق قدماء الإغريق ، والرّواقيين منهم بخاصة ، ترى في نيّة كهذه أنّها ليست حسنة ، فحسب ، بل هي أفضل ما يمكن تحقيقه ، وإذا كان جوهر النّفس هو معرفة الحقيقة ، وملازمة الفضيلة ، وإذا كان أكمل الأعمال في كلّ شيء ـ من ناحية أخرى ـ هو العمل الّذي يهدف إلى تحقيق كمال جوهره ـ فيجب أن نستنتج من ذلك أنّ المبدأ الأخير في الأخلاقية لا يمكن أن يكون غير البحث عن هذا الكمال.
ويجب أن نؤكد فضلا عن ذلك أنّ من المستحيل من وجهة نظر الأخلاق القرآنية أن نقابل بين هذين النّوعين من الخير الشّخصي ؛ لأنّه على حين يقدم القرآن لنا مسألة البحث عن الرّفاهية المادية على أنّها مجرد أمر مباح ، فإنّه لا يقتصر على أن يجعل من طهارة القلب شرطا للسلام ، والسّعادة الأبدية فحسب ، ولكن عنوانا ذا قيمة للإكتساب ، والإجتهاد الّذي لا يفتأ يستثير جهدنا إليه ، واقرأ إن شئت قوله تعالى تعبيرا عن المعنى الأوّل : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) (الشّعراء : ٨٨) (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (١) ، وقوله : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (٢) ـ ثمّ اقرأ عن المعنى الثّاني قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (٣) ، وقوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
__________________
(١) الشّعراء : ٨٩.
(٢) سورة ق : ٣٣.
(٣) التّوبة : ١٠٣.