صدر خطبة طويلة له : «الحمد لله الذي لبس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمى وحراما على غيره ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده ، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصب عليه لأصله ، فعدو الله إمام المتعصبين وسلف المستكبرين ، الذي وضع أساس العصبية ، ونازع الله رداء الجبرية ، وادّرع لباس التعزز. وخلع قناع التذلل. ألا ترون كيف صغّره الله بتكبره ، ووضعه بترفعه ، فجعله في الدنيا مدحورا ، وأعد له في الآخرة سعيرا».
وهكذا يصدق منصور بن عمار حين يقول : «أحسن لباس العبد التواضع والانكسار ، وأحسن لباس العارفين التقوى ، قال الله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ). والحديث النبوي الشريف يزكي ذلك فيقول : «إذا هدى الله عبدا للاسلام ، وحسّن صورته ، وجعله في موضع غير شائن له ، ورزقه مع ذلك تواضعا ، فذلك من صفوة الله».
وقد يقال : وكيف الطريق إلى اكتساب فضيلة التواضع؟. والغزالي يرسم الطريق فيذكر ما ملخصه أن الإنسان يجب عليه أولا أن يتذكر بدايته : «من أي شيء خلقه ، من نطفة خلقه فقدره ، ثم السبيل يسره ، ثم أماته فأقبره ، ثم إذا شاء أنشره (١)» ، فالإنسان في أول أمره لم يكن شيئا مذكورا ، وهو في النهاية يصير شيئا معدوما ، وأي شيء أخسّ من المحو والعدم ، ولقد كان أيضا معدوما قبل إيجاده ، ثم منّ الله عليه بالطاقات والهبات ولو شاء لنزعها
__________________
(١) نطفة : مادة التناسل السائلة. وفأقبره : أمر بدفنه في القبر. وأنشره : بعثه حيا بعد موته.