وقسم النبي ذات يوم قسمة ، فقال رجل ، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. ولما سمع النبي ذلك قال : رحم الله أخي موسى ، فقد أوذي بأكثر من ذلك فصبر.
وجاءه أعرابي يطلب منه شيئا فأعطاه ، ثم قال له : أأحسنت إليك يا أعرابي؟ قال : لا ، ولا أجملت. فغضب المسلمون ، وهموا بالرجل ، فقال لهم النبي : كفّوا عنه. ثم دخل النبي بيته ، ودعا بالأعرابي فأعطاه عطاء آخر حتى رضي ، ثم قال له النبي : أأحسنت إليك؟. قال : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا ..
فقال له النبي : إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فان أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ ، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك. ففعل الرجل ، وهنا قال النبي لأصحابه : إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فاتبعها الناس (أي جروا وراءها) فلم يزيدوها إلا نفورا ، فناداهم صاحب الناقة : خلّوا بيني وبين ناقتي ، فاني أرفق بها وأعلم ، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض (أي حشيشها) فردّها هونا هونا ، حتى جاءت واستناخت ، وشد عليها رحلها واستوى عليها ؛ وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار.
وفي تاريخ عفو الرسول موقف لا ينسى ولا يبلى ، فذلك يوم فتح الله عليه مكة ، وانتصر على أعدائه الذين آذوه واضطهدوه وأخرجوه ، فانه قال لهم ما تظنون أني فاعل بكم؟. فأجابوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ولم يكتف القرآن الكريم بتعطير سيرة العفو فيه ، ولا بطلبه من الرسول ليكون قدوة ، بل طلبه أيضا من العباد. فقال تعالى في سورة النور : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ).