ثم قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) بأن نفى الألوهية التي كانت لآلهتهم وقصرها على واحد ، (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) ؛ بليغ فى العجب ، وذلك لأنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم ، الذين أطبقوا على عبادة آلهتهم ، كابرا عن كابر ، فإنّ مدار كلّ ما يأتون ويذرون ، من أمور دينهم ، هو التقليد والاعتياد ، فيعدون ما يخالف ما اعتادوه عجبا من العجاب ، بل محالا ، وأما جعل مدار تعجبهم عدم وفاء علم الواحد ، وقدرته بالأشياء الكثيرة ، فلا وجه له ؛ لأنهم لا يدّعون أن لآلهتهم علما وقدرة ومدخلا فى حدوق شىء من الأشياء ، حتى يلزم من ألوهيتهم بقاء الأثر بلا مؤثر ، قاله أبو السعود منتقدا على البيضاوي.
قال القشيري : لم تباشر خلاصة التوحيد قلوبهم ، وبعدوا عن ذلك تجويزا ، فضلا عن أن يكون إثباتا وحكما ، فلا عرفوا أولا معنى الإلهية ؛ فإن الإلهية هى القدرة على الاختراع. وتقدير قادرين على ذلك غير صحيح ؛ لما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه ، وذلك يمنع من كمالها ، ولو لم يكونا كاملى الوصف لم يكونا إلهين ، وكلّ من جرّ ثبوته لسقوطه فهو مطرح باطل. ه.
روى أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه فرح به المؤمنون ، وشقّ على قريش ، فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم ، ومشوا إلى أبى طالب ، وقالوا : أنت كبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ـ أي : الذين دخلوا فى الإسلام ـ وجئناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك ، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : يا ابن أخى ؛ هؤلاء قومك يسألونك السواء ، فلا تمل كلّ الميل على قومك ، فقال ـ عليه الصلاة والسّلام ـ «ما ذا يسألوننى»؟ فقالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا ، وندعك وإلهك ، فقال ـ عليه الصلاة والسّلام : «أعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب ، وتدين لكم العجم» ، قالوا : نعم ، وعشرا (١). قال : «قولوا : لا إله إلا الله» فقاموا ، وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٢). قيل : العجب : ما له مثل ، والعجاب : لا مثل له.
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) أي : وانطلق الأشراف من قريش عن مجلس أبى طالب ، بعد ما بكّتهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالجواب ، وشاهدوا تصلبه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فى الدين ، وعزيمته على إظهاره ، ويئسوا مما كانوا يرجونه ، بتوسط أبى طالب ، من المصالحة على الوجه المذكور ، قائلين (أَنِ امْشُوا) و «أن» تفسيرية ؛ لأن المنطلقين عن
__________________
(١) أي : نعطيكها وعشر كلمات معها.
(٢) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (١ / ٢٢٧ ، ٣٦٢) والترمذي وحسّنه فى (التفسير ـ سورة ص ، ح ٣٢٣٢) والنّسائى فى الكبرى (التفسير ٤ / ٤٥٦) وابن حبان (الموارد ح ١٧٥٧) والطبري فى التفسير (٢٣ / ١٢٥) والبيهقي فى السنن (٩ / ١٨٨). والواحدي فى الأسباب (ص ٣٨٠) وصحّحه الحاكم (٢ / ٤٣٢) ووافقه الذهبي. عن ابن عباس رضي الله عنه.