مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ، أو يتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمنا معنى القول ، وقيل : ليس المراد بالانطلاق المشي ، بل انطلاق ألسنتهم بهذا الكلام ، كما أنه ليس المراد بالمشي المتعارف ، بل الاستمرار على المشي ، يعنى أنه على هذا القول : عبارة عن تفرقهم فى طرق مكة ، وإشاعتهم للكفر. ه. أي : امشوا (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي : اثبتوا على عبادتها ، متحملين لما تسمعون فى حقها من القدح.
قال القشيري : إذا [تواصى] (١) الكفار فيما بينهم بالصبر على آلهتهم ، فالمأمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم ، والاستقامة فى دينهم. ه.
(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي : هذا الذي شاهدناه من محمد صلىاللهعليهوسلم من أمر التوحيد ، وإبطال أمر آلهتنا ، لشىء يراد إمضاؤه وتنفيذه ، من جهته ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لا محالة ، من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه ، لا قول يقال من طرف اللسان ، وأمر ترجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتنان ، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه ، بواسطة أبى طالب وشفاعته ، وحسبكم ألا تمنعوا من عباده ألهتكم بالكلية ، فاصبروا عليها ، وتحملوا ما تسمعون فى حقها من القدح وسوء المقالة ، أو : إنّ هذا الأمر لشىء يريده الله تعالى ، ويحكم بإمضائه ، فلا مرد له ، ولا ينفع فيه إلا الصبر ، أو : إنّ هذا الأمر لشىء من نوائب الدهر ، يراد بنا ، فلا انفكاك لنا منه ، أو : إن دينكم لشىء يراد ، أي : يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه ، أو : إن هذا الذي يدعيه من التوحيد ، ويقصده من الرّئاسة ، والترفع على العرب والعجم ، لشىء يتمنى ، ويريده كلّ أحد. فتأمل هذه الأقاويل ، واختر منها ما يساعده النّظم الجليل.
(ما سَمِعْنا بِهذا) الذي يقوله من أمر التوحيد (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي : فى ملة عيسى ، التي هى آخر الملل ؛ لأن النّصارى مثلثة غير موحدة ، أو : فى ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا ، ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالا من «هذا» ، أي : ما سمعنا بهذا من أهل الكتاب ولا الكهان كائنا فى الملة المترقبة. ولقد كذبوا فى ذلك أقبح كذب ؛ فإن حديث البعثة والتوحيد ، وإبطال عبادة الأصنام ، كان أشهر الأمور قبل الظهور. (إِنْ هذا) أي : ما هذا (إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي : كذب ، اختلقه من تلقاء نفسه.
(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي : القرآن : (مِنْ بَيْنِنا) ونحن رؤساء النّاس وأشرافهم. أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ، وينزل عليه الكتاب من بينهم ، حسدا من عند أنفسهم ، كقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٢). وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد ، وقصر النّظر على الحطام الدنيوية ، والعياذ بالله.
__________________
(١) فى الأصول [توصوا].
(٢) الآية ٣١ من سورة الزخرف.