والمعنى : أنهم استغاثوا حين لم ينفعهم ذلك. (وَلاتَ) هى «لا» المشبّهة ب «ليس» ، زيدت عليها تاء التأنيث ، كما زيدت على «ربّ» و «ثمّ» للتوكيد ، وتغيّر بذلك حكمها ، حيث لم تدخل إلا على الأحيان ، ولم يبرز إلا أحد معموليها ، إما الاسم أو الخبر ، وامتنع بروزهما بنفي الأحيان ، وهذا مذهب الخليل وسيبويه ، وعند الأخفش أنها النافية للجنس ، زيدت عليها الهاء ، وخصّت بنفي الأحيان. وقال أبو محمد مكى : الوقف عليها عند سيبويه ، والفراء ، وأبى إسحاق ، وابن كيسان ، بالتاء ، وعليه جماعة القراء ، وبه أتى خط المصحف. وعند المبرد والكسائي بالهاء ، بمنزلة «رب». ه.
الإشارة : افتتح الحق جل جلاله هذه السورة ، التي ذكر فيها أكابر أصفيائه ، بحرف الصاد ، إشارة إلى مادة الصبر ، والصدق ، والصمدانية ، والصفاء ؛ إذ بهذه المقامات ارتفع من ارتفع ، وبالإخلال بها سقط من سقط. فبالصبر على المجاهدات تتحقق الإمامة والقدوة ، وبالصدق فى الطلب يقع الظفر بكلّ مطلب ، وبالصمدانية تقع الحرية من رقّ الأشياء ، وبالصفاء تحصل المشاهدة والمكالمة ، فكأن الحق تعالى أقسم بهذه الأشياء وبكتابه العزيز ؛ إن المتكبرين على أهل الخصوصية ما أنكروا إلا جحودا وعنادا ، وتعززا واستكبارا ، لا لخلل فيهم ، ثم أوعدهم بالهلاك ، كما أهلك من قبلهم ، فاستغاثوا حين لم ينفعهم الغياث.
ثم ذكر تعجبهم من كون المنذر منهم ، فقال :
(وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (٧) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ...)
يقول الحق جل جلاله : (وَعَجِبُوا) أي : كفار قريش من (أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) ؛ رسول من أنفسهم ، استبعدوا أن يكون الرّسول من البشر. قال القشيري : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ، ولم يعجبوا أن يكون المنحوت إلها لهم ، وهذه مناقضة ظاهرة. ه. يعنى : لأن المستحق للإعجاب إلهية المنحوت من الحجر ، لا وجود منذر من البشر ، وهم عكسوا القضية. (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) أي : ساحر فيما يظهر من المعجزات ، كذّاب فيما يدعيه من الرّسالة. وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالكفر ، وغضبا عليهم ، وإشعارا بأن كفرهم هو الذي جسرهم على هذه المقالة الشنعاء.