(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) ، «كل» للإحاطة ، و «أجمعون» للاجتماع ، فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعا ، فى وقت واحد ، غير متفرقين فى أوقات. وظاهر هذه الآية وما فى سورة الحجر (١) : أن الأمر بالسجود كان تعليقيا ، لا تنجيزيا ، فأمرهم بالسجود قبل أن يخلقه ، بل حين أعلمهم بخلقه ، فلما خلقه سجدوا ممتثلين للأمر الأول ، وظاهر ما فى البقرة والأعراف والإسراء والكهف : أن الأمر كان تنجيزيا بعد خلقه ، والجمع بينهما : أنه وقع قبل وبعد ، أو : اكتفى بالتعليقى ، كما يقتضيه الحديث ، حيث قال له بعد نفخ الرّوح فيه : «اذهب فسلّم على أولئك الملائكة ، فسلّم عليهم ، فردوا عليه وسجدوا له». والله تعالى أعلم بغيبه.
(إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) أي : تعاظم عن السجود ، والاستثناء متصل إن قلنا : كان منهم ، حيث عبد عبادتهم ، واتصف بصفاتهم ، مع كونه جنيا ، أو : منقطع ، أي : لكن إبليس استكبر ، (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي : صار منهم بمخالفته للأمر ، واستكباره عن الطاعة ، أو : كان منهم فى علم الله.
(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) أي : عن السجود (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، بلا واسطة أب ولا أم ، امتثالا لأمرى ، وإعظاما لخطابى ، ولمّا كانت الأعمال تباشر فى الغالب باليد ، أطلقت على القدرة. والتثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليهالسلام ، المستدعى لإجلاله وإعظامه ، قصدا إلى تأكيد الإنكار ، وتشديد التوبيخ. وسيأتى فى الإشارة بقية الكلام فى سر التثنية. قال له تعالى : (أَسْتَكْبَرْتَ) ، بهمزة الاستفهام ، وطرح همزة الوصل ، أي : أتكبرت من غير استحقاق ، (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) المستحقين للتفوق ، أو : أستكبرت عن السجود ولم تكن قبل ذلك من المتكبرين ، أم كنت قبل ذلك من المتكبرين على ربك؟.
(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، ولا يليق أن يسجد الفاضل للمفضول ، كقوله : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢) ، وبيّن فضيلته فى زعمه بقوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ، يعنى لو كان مخلوقا من نار لما سجدت له ؛ لأنه مخلوق مثلى ، فكيف أسجد لمن هو دونى ؛ لأنه طين ، والنّار تغلب الطين وتأكله ، ولقد أخطأ اللعين ، حين خصّ الفضل بما من جهة المادة والعنصر ، وغاب عنه ما من جهة الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، وما من جهة الصورة كما نبّه عليه قوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، وما من جهة الغاية ، وهو ما خصّه به من علوم الحكمة ، التي ظهرت بها مزيته على الملائكة ، حتى أمروا بالسجود ، لما ظهر أنه أعلم منهم بما تدور عليه أمر الخلافة فى الأرض ، وأن له خواص ليست لغيره.
__________________
(١) فى قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) الآيتان ٢٩ ـ ٣٠.
(٢) الآية ٣٠ من سورة الحجر.