لك الدهر طوع ، والأنام عبيد |
|
فعش ، كل يوم من أيامك (١) عيد. |
وطريق السير فى هذا أن يساس نفسه شيئا فشيئا ، يمنعها من المكروهات ، ثم من المباحات شيئا فشيئا ، حتى تستأنس ، يترك شهوة ثم أخرى ، وهكذا ، وأما لو منعها الكلّ دفعة واحدة فربما تمل وتسقط ، وقد قال عليه الصلاة والسّلام : «لا يكن أحدكم كالمنبت ، لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى» (٢). وإلى هذا أشار فى المباحث ، حيث قال :
واحتل على النّفس فرّب حيله |
|
أنفع فى النّصرة من قبيله |
وأعظم الحظوظ حب الجاه والتقدم ، فلا يسامحها المريد فى شىء من ذلك قط ، ولينزل بها إلى الخمول والسفليات ، وأما شهوة البطن والفرج ؛ فما تشوفت إليه النّفس من ذلك فليمنعها منها كليا ، وما أتاها من غير حرص ولا تشوف فليأخذ منه قدر الحاجة ، مع الشكر عليه ، هكذا يسير حتى يتحقق وصوله ، ويتمكن من معرفة الحق ، وحينئذ فلا كلام معه ، كما تقدم ، ولا بد من صحبة شيخ عارف كامل ، يلقيه زمام نفسه ، فيحمله بهمته ، وإلا فلا طاقة على مجاهدتها أصلا ، وجرّب ففى التجريب علم الحقائق.
قال القشيري : من لم يسلك سبيل الاتباع ، ولم يستوف أحكام الرّياضة ، ولم ينسلخ عن هواه بالكلية ، ولم يؤدبه إمام مقتدى به ، فهو ينحرف فى كلّ وهدة ، ويهيم فى كلّ ضلالة ، ويضلّ فى كلّ فجّ ، خسرانه أكثر من ربحه ، ونقصانه أوفر من رجحانه ، أولئك فى ضلال بعيد ، زمامهم بيد هواهم ، أولئك أهل المكر ، استدرجوا وما يشعرون. ه. وفى الحكم : «لا يخاف أن تلتبس الطرق عليك ، وإنما يخاف من غلبة الهوى عليك» (٣). فمن غلبه الهوى غلبه الوجود بأسره ، وتصرف فيه ، أحب أم كره ، ومن غلب هواه غلب الوجود بأسره ، وتصرف فيه بهمته كيف شاء.
حكى عن أبى عمران الواسطي ، قال : انكسرت بنا السفينة ، فبقيت أنا وامرأتى على ألواح ، وقد ولدت فى تلك الليلة صبية ، فصاحت بي ، وقالت : يقتلنى العطش ، فقلت : هو ذا يرى حالنا ، فرفعت رأسى ، فإذا رجل جالس فى يده سلسلة من ذهب ، فيها كوز من ياقوت أحمر ، فقال : هاك اشربا ، فأخذت الكوز ، فشربنا ، فإذا هو أطيب من
__________________
(١) هكذا ، وأرى ـ أنها «زمانك» ليستقيم الوزن.
(٢) أخرجه البيهقي السنن (٣ / ١٨) والبزار (٧٤) والحاكم فى معرفة علوم الحديث (ص ٩٦) والشهاب القضاعي فى مسنده (ح ١١٤٧ ، وح ١١٤٨) عن جابر مرفوعا ، بلفظ «إن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، فإنّ المنبت ..» إلخ الحديث ، وزاد القضاعي بعد «فأوغل فيه برفق» : «ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله» وأخرجه بنحوه البيهقي فى الشعب (ح ٣٨٨٥) عن السيدة عائشة رضي الله عنها ، و (ح ٣٨٨٦) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وانظر الشذرة فى الأحاديث المشتهرة (ح ٨٩٣) وكشف الخفاء (٢٣٣٩).
(٣) حكمة رقم (١٠٧) انظر تبويب الحكم ص ١٧.