على هذه العلة المحذوفة ، أي : لتدل ولتجزى ، أو على «بالحق» لأن فيه معنى التعليل ؛ إذ معناه : خلقها مقرونة بالحكمة والصواب ، دون العبث ولتجزى ... إلخ ، أو : ليعدل وتجزى كلّ نفس بما كسبت ، (وَهُمْ) أي : النفوس ، المدلول عليها بكلّ نفس (لا يُظْلَمُونَ) بنقص الثواب أو زيادة عقاب.
الإشارة : أم حسب الذين ماتوا على دنس الإصرار ، أن نجعلهم كالمطهرين الأبرار ، أم حسب الذين عاشوا فى البطالة والتقصير أن نجعلهم كالذين عاشوا فى الجد والتشمير؟ «أم حسب الذين عاشوا فى غم الحجاب ، وصاروا إلى سوء الحساب ، أن نجعلهم كالذين تهذبوا حتى ارتفع عنهم الحجاب ، وصاروا إلى غاية الكرامة والاقتراب؟ لا استواء بينهم فى المحيا ولا فى الممات ، الأولون عاشوا معيشة ضنكا ، وصاروا بعد الموت إلى النّدامة والحسرة ، والآخرون عاشوا عيشة راضية ، وماتوا موتة طيبة ، وصاروا إلى كرامة أبدية ، ولهذا بكت الأكابر عند قراءتها ، فروى عن تميم الداري : أنه كان يصلى ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكى ويرددها إلى الصباح. وعن الفضيل : أنه بلغها ، فجعل يبكى ، ويقول : يا فضيل! ليت شعرى من أىّ الفريقين أنت؟. وعن الرّبيع بن خيثم : أنه قام يصلى ليلة ، فمر بهذه الآية ، فمكث ليلة حتى أصبح يبكى بكاء شديدا ، وكانت تسمى مبكاة العابدين.
وسبب تسوية العاصي مع المطيع الانهماك فى الهوى ، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣))
يقول الحق جل جلاله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي : أباح لنفسه كلّ ما تهواه ، سواء كان مباحا أو غير مباح ، فكأنه يعبده كما يعبد الرّجل إلهه ، وإليه أشار فى المباحث بقوله :
ومن أباح النّفس ما تهواه |
|
فإنما معبوده هواه |
فالآية وإن نزلت فى هوى الكفر ؛ فهى متناولة لكلّ هوى النّفس الأمّارة ، قال ابن جبير : نزلت فى قريش والعرب ، كانوا يعبدون الحجارة والذهب والفضة ، فإذا وجدوا شيئا أحسن ألقوه وعبدوا غيره (١). ه. ومتابعة الهوى كلها مذمومة ، فإن كان ما هوته محرّما أفضى بصاحبه إلى العقاب ، وإن كان مباحا بقي صاحبه فى غم الحجاب وسوء الحساب ، وأسر نفسه وكدّ طبعه. وفى الحديث عنه صلىاللهعليهوسلم : «ما عبد تحت السماء أبغض إلى الله تعالى من
__________________
(١) ذكره القرطبي (٧ / ٦١٧٣) والبغوي (٧ / ٢٤٥).