قوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ..) الآية ، لا عذاب أشد من الحجب بعد الإظهار ، والفرقة بعد الوصال. وأنشدوا :
فخلّ سبيل العين بعدك للبكا |
|
فليس لأيّام الصّفاء رجوع |
انظر القشيري.
ولمّا ذكر ما منّ به عليهم من النّعم الباطنة ، وهى دلائل التوحيد ، ذكر ما منّ به عليهم من النّعم الظاهرة ، فقال :
(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣))
يقول الحق جل جلاله : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) أي : ذلله ، بأن جعله أملس السطح ، يطفو عليه ما فوقه ، ولا يمنع الغوص فيه ، لميعانه ، (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) ؛ بإذنه ، وأنتم راكبوها ، (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالتجارة ، والغوص لابتغاء الحلية ، كاللؤلؤ والمرجان ، وكالصيد وغيرها ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ؛ ولكى تشكروا النّعم المترتبة على ذلك ، (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الموجودات ، بأن جعلها مدارا لمنافعهم.
قال القشيري : إذ ما من شىء من الأعيان الظاهرة ، إلا وللإنسان به انتفاع من وجوه ، فالسماء لهم بناء ، والأرض لهم مهاد ، وليتأمل العبد فى كلّ شىء [لو لم يكن ، أىّ خلل يرجع إلى الخلق؟] (١) ، لو لا الشمس كيف كانوا يتصرفون بالنهار ،؟ ولو لا الليل ، كيف كانوا يسكنون؟ ولو لا القمر هل كانوا يهتدون للحساب والآجال؟ وكذلك جميع المخلوقات. ه. وقوله : (جَمِيعاً مِنْهُ) : حال ، وليس من التوكيد لعدم الضمير ، ولو كان توكيدا لقال : جميعه ، ثم التوكيد بجميع قليل ، فلا يحمل التنزيل عليه ، قاله فى المغني. والمنفي كونه توكيدا اصطلاحيا ، فلا ينافى كونه حالا مؤكدة فى المعنى. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : فيما ذكر من الأمور العظام (لَآياتٍ) عظيمة الشأن ، كثيرة العدد ، (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فى بدائع صنعه تعالى ، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها ، ويوفقون لشكرها.
الإشارة : الله الذي سخّر لكم بحر التوحيد الخاص ، وهو تجلى عظمة الذات ، لتجرى فلك الأفكار فى تيار بحر الذات ونور الصفات ، فتراها تعوم تارة فى أسرار الجبروت الأعلى ، وتارة فى أنوار الملكوت الأدنى ، ولتبتغوا من
__________________
(١) العبارة فى القشيري : كيف إن كان خلل فى شىء منها ما ذا يمكن أن يكون؟.