ما فى (لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) من الشمول ، كما فى قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (١) ، وأفرد فيما سبق من الضمائر باعتبار كلّ واحد واحد. (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي : من قدّامهم ، لأنهم متوجهون إلى ما أعدّ لهم ، أو : من خلفهم ؛ لأنهم معرضون عن ذلك ، مقبلون على الدنيا ، فإن الوراء : اسم للجهة التي يواريها الشخص من قدّام وخلف ، (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ) ؛ لا يدفع عنهم (ما كَسَبُوا) من الأموال والأولاد (شَيْئاً) من عذاب الله تعالى ، (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي : الأصنام ، و «ما» مصدرية ، أو موصولة ، وتوسيط حرف النفي بين المعطوفين ينبئ أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعا ، مبنى على زعمهم الفاسد ، حيث كانوا يطمعون فى شفاعتهم (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره.
(هذا) أي : القرآن (هُدىً) فى غاية الكمال من الهداية ، كأنه نفس الهدى ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي : القرآن ، وإنما وضع موضع ضميره الآيات لزيادة تشنيع كفرهم وتفظيع حالهم ، (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) ؛ من أشد العذاب (أَلِيمٌ) ؛ مؤلم ، بالرفع (٢) صفة «عذاب» ، وبالجر صفة «رجز» ، وتنوين عذاب فى المواضع الثلاثة للتفخيم.
الإشارة : من لم يضبط لسانه وجوارحه ، وتصاممت آذان قلبه عن تدبر القرآن ، فالويل حاصل له ، ويبشّر بالخيبة والخسران من مراتب أهل العرفان ، ومن ضبط أمور ظاهره بالتقوى ، وفتحت آذان قلبه لسماع كلام المولى ، فقد فار بعز الدارين. قال القشيري : فمن استمع بسمع الفهم ، واستبصر بنور التوحيد ، فاز بذخر الدارين ، وتصدّى لعز المنزلتين ، ومن تصامم بحكم الغفلة ، وقع فى وهدة الجهل ، ووسم بكى الهجر. ه.
قوله تعالى : (إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً). قال القشيري : وقد يكاشف العبد من مواطن القلب بتعريفات لا يداخله فيها ريب ، ولا يتخلله فيها شك فيما هو فيه من حاله ، فإذا استهان بها وقع فى ذلّ الحجبة ، وحجاب الفرقة وهوانها. ه. فإذا صفا القلب صار مرسى لتجلى الواردات الإلهية ، وهى آية من آياته ، فإذا تجلى فيه شىء بأمر أو نهى فاستهان به وخالفه أدبه الحق على ذلك ، إما فى ظاهره ، وهو أخف ، أو فى باطنه بالحجبة أو الفرقة ، ولقد سمعت شيخ شيوخنا ، مولاى العربي الدرقاوى رضي الله عنه يقول : لى ثلاثون سنة ما خالفت قلبى فى شىء إلا أدبنى الحق تعالى عليه. ه. أي : فى ظاهره ، وذلك لغاية صفائه.
__________________
(١) من الآية ٥٣ من سورة المؤمنون.
(٢) قرأ «أليم» برفع الميم ، ابن كثير وحفص ويعقوب ، وقرأ الباقون بالجر. انظر الإتحاف (٢ / ٤٦٦).