فضل معرفته ، وزيادة الترقي فى كشف الأسرار ، وهذا لمن اتسع عليه فضاء الشهود ، وزاحت عنه حجب الكائنات ، وأما من بقي مسجونا فيها ، السماء تظله ، والأرض تقله ، فلا يطمع أن تسرح فكرته فى هذه البحار ، وحسبه أن يكون حمارا يسافر فى البر ، تعبه كثير ، وربحه قليل ، والغناء به بعيد ، وسبب بقائه فى تعب البر عدم صحبته للرجال البحرية ، الذين هم ريّاس البحر ، وشيوخ ركّب البر. وبالله التوفيق.
قال القشيري : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) تركبونه ، فربما تسلم السفينة ، وربما تغرق ، كذلك العبد فى فلك الاعتصام فى بحار التقدير ، تمشى بهم رياح العناية ، وترفع لهم شراع التوكل ، تجرى فى البحر لتجر اليقين ، فإن هبت رياح السلامة نجت السفينة ، وإن هبت نكباء الفتنة لم يبق بيد الملاح شىء ، فعند ذلك المقادير غالبة ، وبلغت قلوب أهل السفينة الحناجر. ه. قلت : من ركب مع رائس ماهر ؛ الغالب عليه السلامة.
قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) ، فى بعض الأثر : يقول الله تعالى : «يا ابن آدم ؛ خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلى ، فلا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك لأجله» (١) أي : لا تنشغل بخدمة الكون عن خدمة المكوّن ، فما أفلح من انشغل بدنياه ، وآثر هواه على خدمة مولاه ، كان حرا والأشياء كلها عبيد له ، فصار عبدا لعبيده ، بحبه للأشياء وتعشقه لها ، كانت الأشياء تعشقه وتخدمه ، ثم صار يخدم الأشياء ويعشقها ، أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوّن ، فإذا شهدت المكوّن كانت الأكوان معك ، فاعرف قدرك أيها الإنسان ، وارفع همتك عن الأكوان ، وعلّق قلبك بالملك الديان ، يعطك الحق تعالى من العرش إلى الفرش ، تتصرف فيه بهمتك كيف شئت ، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم بيّن الطريق الموصل إلى هذا ، وهو حسن الخلق مع كلّ مخلوق ، فقال :
(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))
قلت : (يغفروا) ، قيل : جواب الأمر المذكور ، أي : إن تقل يغفروا ، وقيل : لأمر محذوف ، أي : قل لهم اغفروا يغفروا ، وقيل : حذف لام الأمر ، أي : ليغفروا ، وقرأ أبو جعفر : (ليجزى قوما) بالبناء للمفعول ، ونصب (قوما) إما
__________________
(١) رواه الشيخ محى الدين ابن عربى فى «مشكاة الأنوار فيما روى عن الله سبحانه من الأخبار ، ح ٥٨» وقال : «رويته من جزء الرّبعى».