الإشارة : قال القشيري : الحاء تدل على حياته ، والميم تدل على مودته ، كأنه قال : بحق حياتى ومودتى لأوليائى ، لا شىء أعز على أحبائى من لقائى ، العزيز فى جلاله ، الحكيم فى فعاله ، العزيز فى أزله ، الحكيم فى لطفه بالعبد بوصف إقباله.
قوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) الآية ؛ شواهد الرّبوبية لائحة ، وأدلة الإلهية واضحة ، فمن صحا فكره عن سكر الغفلة ، ووضع سرّه فى محل العبرة ، حظى ـ لا محالة ـ بحقائق الوصلة. ه. قلت : إنما يحظى بالوصله إذا نفذت بصيرته إلى شهود المكوّن ، ولم يقف مع شىء من حس الكائنات ، بل نفذ إلى ما فيها من أسرار المعاني ، فعرف فيها مولاها ، وشاهد فيها المتجلى بها ، وإلا بقي مسجونا محصورا فى ذاته.
قوله تعالى : (وَفِي خَلْقِكُمْ ...) الآية ، قال القشيري : إذا أنعم العبد النّظر فى استواء قدّه وقامته ، واستكمال خلقه (١) ، وتمام تمييزه ، وما هو مخصوص به من جوارحه وحوائجه ، ثم فكّر فيما عداه من الدواب ، وأجزائها وأعضائها ، ووقف على اختصاصه ، وامتياز بنى آدم من بين البريّة من الحيوانات ، فى الفهم والعقل والتمييز والعلم ، ثم فى الإيمان والعرفان ، ووجوه خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة من فنون الإحسان ؛ عرف تخصيصهم بمناقبهم ، وانفرادهم بفضلهم ، فاستيقن أن الله أكرمهم ، وعلى كثير من المخلوقات قدّمهم.
ثم قال فى قوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) الآية. جعل الله العلوم الدينية كسبية مصحّحة بالدلائل ، محتفة بالشواهد ، فمن لم يستبصر لها زلّت قدمه عن الصراط المستقيم ، ووقع فى عذاب الجحيم ، فاليوم فى ظلمة الحيرة والتقليد ، وفى الآخرة فى التخليد فى الوعيد. ه. قلت : النظر فى دلائل الكائنات من غير تنوير ، ولا صحبة أهل التنوير ، لا تزيد إلا حيرة ، ولذلك قال بعضهم : إيمان أهل علم الكلام كالخيط فى الهواء ، يميل مع كل ريح ، فالتقليد حينئذ أسلم ، والتمسك بظاهر الكتاب والسنة أتم ، ومن سقط على العارفين بالله ، لم يحتج إلى دليل ولا شاهد ، وأغناه شهود الشهيد عن كلّ شاهد.
عجبت لمن يبغى عليك شهادة |
|
وأنت الذي أشهدته كلّ شاهد. |
كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف؟! تنزه الحق تعالى أن يفتقر إلى دليل يدلّ عليه ، بل به يستدل على غيره ، فلا يجد غيره. تلك آيات شواهد نتلوها عليك لترانا فيها ، لا لتراها مفروقة عنا ، ولذلك قال تعالى : (بالحق) ، أي : ملتبسة بنور الحق ، الله نور السماوات والأرض.
__________________
(١) فى القشيري : عقله.