وهو الأوفق بقوله : (وَفِي خَلْقِكُمْ) أي : من نطفة ثم من علقة متقلبة من أطوار مختلفة إلى تمام الخلق ، (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) : عطف على المضاف دون المضاف إليه ، أي : وفى خلق ما يبث ، أي : ينشر ويصرّف من دابة (آياتٌ) ظاهرة على باهر قدرته وحكمته ، (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي : من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هى عليه ، ويعرفوا فيها صانعها ، (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : تعاقبهما بالذهاب والمجيء ، أو : تفاوتهما طولا ، وقصرا ، (وَ) فى (ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) ؛ مطر ؛ لأنه بسبب الرّزق ، فعبّر عن السبب بالمسبب ؛ لأنه نتيجته ، تنبيها على كونه آية من جهة القدرة والرّحمة ، (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بأن أخرج أصناف الزرع والثمرات والنّبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي : خلوها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها ، وخلو أشجارها عن الثمار والأزهار.
(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي : هبوبها من جهة إلى أخرى ، ومن حال إلى حال ، وتأخيره عن نزول المطر مع تقدمه عليه فى الوجود ، إما للإيذان بأنه آية مستقلة ، ولو روعى الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح ونزول المطر آية واحدة ، أو : لأن كون التصريف آية ليس مجرد كونه مبتدأ لإنشاء المطر ، بل له ولسائر المنافع ، التي من جملتها : سوق السفن فى البحار ، وإلقاح الأشجار ، (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ؛ يتدبرون بعقولهم ، فيصلون إلى صريح التوحيد. وفى تقديم الإيمان على الإيقان ، وتأخير تدبر العقل ؛ لأن العباد إذا نظروا فى السموات والأرض نظرا صحيحا ؛ علموا أنها مصنوعة ، وأنه لا بدّ لها من صانع ، فآمنوا بالله ، وإذا نظروا فى خلق أنفسهم ، وتنقلها من حال إلى حال ، وفى خلق ما ظهر على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيمانا وأيقنوا ، فإذا نظروا فى سائر الحوادث التي تتجدد فى كلّ وقت ، كتعاقب الليل والنّهار ، ونزول الأمطار ، وحياة الأرض بعد موتها ، وتصريف الرّياح ، جنوبا وشمالا ، ودبورا وصبا ، عقلوا ، واستحكم فى عقولهم ، وخلص يقينهم ، فكانوا من ذوى الألباب.
(تِلْكَ آياتُ اللهِ) ؛ مبتدأ وخبر ، و (نَتْلُوها عَلَيْكَ) حال ، والعامل : معنى الإشارة ، أي : تلك الآيات المتقدمة هى آيات الله الدالة على وجوب وجوده واتصافه بأوصاف الكمال ، حال كونها متلوة عليك ، ملتبسة (بِالْحَقِ) أو : نتلوها محقين فى ذلك ، فالجار والمجرور : حال من المفعول أو الفاعل. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) من الأحاديث (بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ) أي : بعد آيات الله ، كقولك : أعجبنى زيد وكرمه ، أي : أعجبنى كرم زيد ، أو : بعد حديث الله ، الذي هو القرآن ، وآياته العامة فى كلّ شىء ، فيكون على حذف مضاف ، أو : يراد بها القرآن أيضا ، والعطف للتغاير العنواني ، فالأول من جهة كونه حديثا حسنا ، والثاني باعتبار كونه معجزا ، أي : فبأى حديث بعد أحسن الحديث وأبهر الآيات (يُؤْمِنُونَ) ؛ يصدّقون؟! ومن قرأ بالخطاب (١) يقدر : قل يا محمد.
__________________
(١) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب «يؤمنون» بالتاء ، وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (٢ / ٤٦٦).