وغواص من الشياطين ، (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) ؛ فكان يقرن مردة الشياطين ، بعضهم مع بعض ، فى القيود والسلاسل ، للتأديب والكف عن العباد.
والصفد : القيد ، وقد يسمى العطاء بالصفد ؛ لأنه ارتباط للمنعّم عليه فى يد المنعم. ومنه قول علىّ رضي الله عنه : (من برّك فقد أسرك ، ومن جفاك فقد أطلقك) ، ومن هذا كانت الصوفية يهربون من خير النّاس ، أكثر مما يهربون من شرهم. قال الشيخ عبد السّلام بن مشيس لأبى الحسن الشاذلى ـ رضي الله عنهما : يا أبا الحسن اهرب من خير النّاس ، أكثر مما تهرب من شرهم ، فإنّ خيرهم يصيبك فى قلبك ، وشرهم يصيبك فى بدنك ، ولئن تصاب فى بدنك خير من أن تصاب فى قلبك ، ولعدو تصل به إلى ربك خير من حبيب يقطعك عن ربك. ه.
(هذا عَطاؤُنا) ، هو حكاية لما خوطب به سليمان من قبل الحق تعالى ، أي : وقلنا له هذا الذي أعطيناك من الملك العظيم ، والسلطنة ، والتسلط على ما لم يسلط عليه غيرك ، هو عطاؤنا الخاص بك ، (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) أي : أعط من شئت ، وامنع من شئت ، (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : غير محاسب على منّه ومنعه لتفويض التصرف فيه إليك ، فكان إذا أعطى أجر ، وإذا منع لم يأثم ، بخلاف غيره. قال الحسن : إن الله لم يعط أحدا عطية إلا جعل فيها حسابا ، إلا سليمان ، فإن الله أعطاه عطاء هينا. وهذا مما خص به سليمان عليهالسلام ، وأما غيره ، فيؤخر على بذله ، ويعاقب على منعه من حقه ، و (بِغَيْرِ حِسابٍ) : قيل : متعلق بعطاؤنا ، وقيل : حال من المستكن فى الأمر ، أي : هذا عطاؤنا جما كثيرا ، لا يكاد يقدر على حصره ، أو : هذا التسخير عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق ، أو : أمسك من شئت منهم فى الوثاق ، لا حساب عليك فى ذلك.
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) ؛ لقربى فى الآخرة ، مع ماله فى الدنيا من الملك العظيم ، (وَحُسْنَ مَآبٍ) ؛ مرجع ، وهى الجنة. وزلفى : اسم إن ، و «له» : خبر ، و «عند» : متعلق بالاستقرار.
روى أن سليمان عليهالسلام لما ورث ملك أبيه ، سار من الشام إلى العراق ، فبلغ خبره كسرى ، فهرب إلى خراسان ، فلم يلبث حتى هلك. ثم سار سليمان عليهالسلام إلى مرو ، ثم إلى بلاد الترك ، فأوغل فيها ، ثم جاز بلاد الصين ، ثم عطف إلى أن وافى بلد فارس ، فنزلها أياما ، ثم عاد إلى الشام ، فأمر بيناء بيت المقدس ، فلما فرغ منه سار إلى تهامة ، ثم إلى صنعاء ، وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكر الله ، وغزا بلاد المغرب ؛ الأندلس وطنجة وغيرهما. انظر أبا السعود (١). والله تعالى أعلم.
__________________
(١) إرشاد العقل السليم (٧ / ٢٢٨).