(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) ، هو بدل من «أناب» ، أي : اغفر لى ما صدر عنى من الزلة ، (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، ليكون معجزة لى ، مناسبة لحالى ، فإنه عليهالسلام لمّا نشأ فى بيت الملك والنّبوة ، وورثهما معّا ، استدعى من ربه معجزة جامعة لحكمهما. أو : لا ينبغى لأحد يسلبه منى بعد هذه السلبة ، أو : لا يصح لأحد من بعدي ؛ لعظمته وشدته.
قال القشيري : ويقال : لا ينبغى لأحد من بعد أن يسأل الملك ، بل يجب أن يكل أمره إلى الله ـ ومثله للجنيد ، وزاد : فإن الملك شغل عن المالك ـ أو : يقال : لا ينبغى لأحد من بعدي من الملوك ، لا من الأنبياء ، وإنما سأل الملك لسياسة النّاس ، وإنصاف بعضهم من بعض ، والقيام بحق الله ، ولم يسأله لأجل ميله إلى الدنيا. وهو كما قال يوسف عليهالسلام : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ...) (١). ثم قال : علم أن نبينا عليه الصلاة والسّلام لا يلاحظ الدنيا ، ولا يملكها ، تحقيرا لها فقال : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) لا لأنه بخل به عليه ، ولكن لعلمه أنه لا ينظر إلى ذلك. ه. هذا ، وقد يقال : أن قوله : (وَهَبْ لِي مُلْكاً) قد جرى على لسانه ، كما هو حال النّطق بالله من أهل الله ، ولذلك كان الأمر كذلك ، ولم يزاحمه أحد ، كقول الخليل» : (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً) (٢) ، لما جرى به القضاء أنطقه الله بما سيكون. وتقديم الاستغفار على الاستيهاب ؛ لمزيد اهتمامه بأمر الدين ، جريا على سنن الأنبياء والصالحين ، وكون ذلك أدخل فى الإجابة.
(إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ؛ تعليل للدعاء بالهبة والمغفرة معا ، فإن المغفرة من أحكام وصف الوهّابية قطعا ، (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) ؛ فذللناها لطاعة ، إجابة لدعوته ، فعاد أمره عليهالسلام إلى ما كان عليه قبل الفتنة ، قيل : فتن سليمان بعد ما ملك عشرين ، وملك بعد الفتنة عشرين ، فسخرت له الرّيح (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) ؛ بيان لتسخيرها ، (رُخاءً) أي : لينة ، من الرّخاوة ، أو : طيبة لا تزعج ، وهذا بعد أن تقلّ السرير من الأرض الإعصار ، فإذا صار فى الهواء حملته الرّخاء الطيبة ، (حَيْثُ أَصابَ) أي : قصد وشاء ، بلغة حمير. تقول العرب : أصاب الصواب فأخطاء الجواب ، أي : أراد الصواب فأخطأ. قال الشاعر :
أصاب الكلام فلم يستطع |
|
فأخطا الجواب لدى المفصل |
(وَ) سخرنا له (الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) : بدل من «الشياطين». فكانوا يبنون له ما يشاء ، ويغوصون له فى البحر ؛ لاستخراج اللآلئ ، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر ، أي : وسخّرنا له كلّ بناء
__________________
(١) من الآية ٥٥ من سورة يوسف.
(٢) من الآية ١٢٩ من سورة البقرة.