لتخلصه إليها ، فيستبشر بقدومه كلّ من هنالك ، وينظر الله إلى خلقه بعين الرّحمة ، فيرتحم ببركة قدومه الوجود بأسره. والله ذو الفضل العظيم.
وقوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ) قال القشيري : ويقال : على علم بمحبة قلوبهم لنا مع كثرة ذنوبهم فينا ، ويقال : على علم بما نودع عندهم من أسرارنا ، ونكاشفهم به من حقائق حقنا.
وقال الورتجبي : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ) أي : على علم بصفاتنا ، ومعرفة بذاتنا ، ومشاهدة على أسرارنا ، وبيان على معرفة العبودية والرّبوبية ، ودقائق الخطرات والقهريات واللطيفات فى زمان المراقبات. ه.
وقال الواسطي : اخترناهم على علم منا بجنايتهم ، وما يقترفون من أنواع المخالفات ، فلم يؤثر ذلك فى سوابق علمنا لهم ، ليعلم أن الجنايات لا تؤثر فى الرّعايات. وقال الجرّار : علمنا ما أودعنا فيهم من خصائص سرنا ، فاخترناهم بعلمنا على العالمين. ه. قلت : والمقصود بالذات : بيان أن اختياره ـ تعالى ـ مرتب على سابق علمه الأزلى ، وعلمه ـ تعالى ـ لا تغيره الحوادث ، وقد انقطعت دولة بنى إسرائيل ، فما بقي الكلام إلا مع الملة المحمدية.
ثم ردّ على من أنكر البعث ، بعد أن ذكر بعض أشراطه ، كالدخان وغيره ، فقال :
(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩))
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ هؤُلاءِ) يعنى كفار قريش ؛ لأن الكلام معهم ، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على مماثلتهم فى الإصرار على الضلالة ، والتحذير من حلول مثل ما حلّ بهم ، (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي : ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى ، المزيلة للحياة الدنيوية ، ولا قصد فيه لإثبات موتة أخرى ، كقولك : حج زيد الحجة الأولى ومات ، أو : ما الموتة التي تعقبها حياة إلا الموتة الأولى ، التي تقدمت وجودنا ، كقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (١) كأنهم لما قيل لهم : إنكم تموتون موتة تعقبها حياة ، كما تقدمتكم كذلك ، أنكروها ، وقالوا : ما هى إلا موتتنا الأولى ، وأما الثانية فلا حياة تعقبها ، أو : ليست الموتة إلا هذه الموتة ، دون الموتة
__________________
(١) من الآية ٢٨ من سورة البقرة.