(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) أي : بنى إسرائيل (عَلى عِلْمٍ) أي : عالمين بأنهم أحقاء بالاختيار ، أو عالمين بأنهم يزيغون فى بعض الأوقات ، ويكثر منهم الفرطات ، فلم يؤثر ذلك فى سوابق علمنا ، ليعلم أن الجنايات لا تؤثر فى الرعايات ، (عَلَى الْعالَمِينَ) أي : عالمى زمانهم ، لما كثر فيهم من الأنبياء ، (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) ، كفلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وغيرها من عظائم الآيات ، (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) ؛ نعمة ظاهرة ، أو : اختبار ظاهر ، لينظر كيف يعملون ، وقيل : البلاء المبين هو المطالبة بالشكر عند الرّضا ، والصبر عند الكدر والعناء.
الإشارة : كم ترك أهل الغفلة والاغترار ، من جنات وعيون ، وزروع ومقام كريم ، من قصور وديار ، فارقوها ، أخصب ما كانوا فيها ، وأزعجوا عنها أحوج ما كانوا إليها ، استبدلوا سعة القصور بضيق اللحود والقبور ، ومحاسن الملابس والتيجان بعصائب الخرق والأكفان ، فيا من ركن إلى الدنيا ، انظر كيف تفعل بأهلها ، فرحم الله عبدا أخذ من الدنيا الكفاف ، وصاحب فيها العفاف ، وتزود للرحيل ، وتأهب للمسير.
ذكر الطرطوسي فى كتابه «سراج الملوك» : قال أبو عبد الله بن حمدون : كنت مع المتوكل ، لما خرج إلى دمشق ، فركب يوما إلى رصافة «هشام بن عبد الملك» فنظر إلى قصورها خاوية ، ثم خرج فنظر إلى دير هناك قديم ، حسن البناء ، بين مزارع وأشجار ، فدخله ، فبينما هو يطوف به ، إذ بصر برقعة قد التصقت بصدره ، فأمر بقلعها ، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات :
أيا منزلا بالدّير أصبح خاليا |
|
تلاعب فيه شمأل ودفور |
كأنّك لم يسكنك بيض نواعم |
|
ولم يتبختر فى قبابك حور |
وأبناء أملاك غواشم سادات |
|
صغيرهم عند الأنام كبير |
إذا لبسوا أدراعهم ؛ فعوابس |
|
وإن لبسوا تيجانهم فبدور |
على أنّهم يوم اللّقاء ضراغم |
|
وأنّهم يوم النّوال بحور |
ليالى هشام بالرّصافة قاطن |
|
وفيك ابنه يا دير وهو أمير. |
إلى أن قال :
بلى فسقاك الغيث صوب سحائب |
|
عليك بها بعد الرّواح بكور |
تذكّرت قومى فيكما فبكيتهم |
|
بشجو ومثلى بالبكاء جدير |
فعزيت نفسى وهى نفس إذا جرى |
|
لها ذكر قومى أنّة وزفير |