وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣))
يقول الحق جل جلاله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي : كثيرا ما ترك فرعون وجنوده بمصر من بساتين. روى أنها كانت متصلة بضفتى النّيل جميعا ، من رشيد إلى أسوان ، (وعيون) يحتمل أن يريد الخلجان ، شبهها بالعيون ، أو كانت ثمّ عيون وانقضت ، (وَزُرُوعٍ) أي : مزارع ، (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) ، محافل مزينة ، ومنازل محسّنة ، وسماه كريما ؛ لأنه مجلس الملوك ، وقيل : المنابر ، (وَنَعْمَةٍ) أي : بسطة ولذاذة عيش وتنعّم ، (كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي : متنعّمين فرحين مسرورين.
وفى المشارق : النعمة ـ بالفتح : التنعم ، وبالكسر : اسم ما أنعم الله به على عباده ، قال ابن عطية : النعمة ـ بالفتح : غضاوة العيش ، ولذاذة الحياة ، والنّعمة ـ بالكسر : أعم من هذا كله ، وقد تكون الأمراض والمصائب نعما ، ولا يقال فيها نعمة بالفتح. ه. فانظره.
(كَذلِكَ) ، أي : الأمر كذلك ، فالكاف فى محل الرّفع ، على أنه خبر عن مضمر ، أو نصب على أنه مصدر لمحذوف يدل عليه : (تركوا) أي : مثل ذلك السلب سلبناهم إياها ، (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) ليسوا منهم فى شىء فى قرابة ولا دين ، ولا ولاء ، وهم بنو إسرائيل ، بأن تولوا أحكامها والتصرف فيها. وقال الحسن : رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر ، نظيره : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ...) (١) الآية ، ومثله عن القرطبي والبيضاوي ، وكذلك فى نوادر الأصول ، وقد تقدم الكلام عليه فى الشعراء (٢). وفى الآية اعتبار واستبصار ، وتنبيه للعاقل على عدم الاغترار ، وسيأتى فى الإشارة ما فيه كفاية نظما ونثرا.
(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ، مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم ، والاعتداد بوجودهم ، وفيه تهكم بهم ، وبحالهم المنافية ، بحال من يعظم فقده ، فيقال : بكت عليهم السماء والأرض ، وكانت العرب إذا عظّمت مهلك رجل قالوا : بكته الرّيح والبرق والسماء ، قال الشاعر :
__________________
(١) من الآية ١٣٧ من سورة الأعراف.
(٢) عند تفسير الآية ٥٩ من سورة الشعراء.