(فَدَعا رَبَّهُ) بعد ما تمادوا على تكذيبه ، شاكيا إلى ربه : (أَنَّ هؤُلاءِ) أي : بأن هؤلاء ، (قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) ، وهو تعريض بالدعاء عليهم ، بذكر ما استوجبوه ، ولذلك سمى دعاء ، وقيل : كان دعاؤه : اللهم عجّل لهم ما يستوجبونه بإجرامهم ، وقيل : هو قوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (١) وقيل : قوله : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢) ، وقرىء بالكسر (٣) على إضمار القول. قال تعالى له ـ بعد : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) ، والفاء تؤذن بشرط محذوف ، أي : إن كان الأمر كما تقول (فَأَسْرِ بِعِبادِي) ؛ بنى إسرائيل (لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي : دبّر الله أن تتقدموا ، ويتبعكم فرعون وجنوده ، فننجّى المتقدمين ، ونغرق الباقين ، (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) ؛ ساكنا على حالته بعد ما جاوزته ، ولا تضربه بعصاك لينطبق ، ولا تغيره عن حاله ليدخله القبط ، أراد موسى عليهالسلام لمّا جاوزه أن يضربه بعصا لينطبق ، فأمره أن يتركه ساكنا على هيئته (٤) ، قارا على حالته ، من انتصاب الماء كالطود العظيم ، وكون الطريق يبسا لا يغير منه شيئا ، ليدخله القبط ، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم ، فالرهو فى كلام العرب : السكون ، قال الشاعر :
طير رأت بازيا نضح الدّعاء به |
|
وأمّة خرجت رهوا إلى عيد |
أي : ساكنة ، وقيل : الرهو : الفرجة الواسعة ، أي : اتركه مفتوحا على حاله منفرجا ، (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) بعد خروجكم من البحر. وقرئ بالفتح ، أي : لأنهم.
الإشارة : كل زمان له فراعين ، يحبسون النّاس عن طريق الله ، وعن خدمته ، فيبعث الله إليهم من يذكّرهم ، ويأمرهم بتخلية سبيلهم ، أو بأداء الحقوق الواجبة عليهم ، فإذا كذّب الداعي ، قال : وإن لم تؤمنوا فاعتزلون ، فاذا أيس من إقبالهم دعا عليهم ، فيغرقون فى بحر الهوى ، ويهلكون فى أودية الخواطر. وبالله التوفيق.
ثم حضّ على الاعتبار ، فقال :
(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ
__________________
(١) الآية ١٠ من سورة القمر.
(٢) الآية ٨٥ من سورة يونس.
(٣) قرأ «إن هؤلاء» بالكسر ابن أبى إسحاق وعيسى والحسن فى رواية ، وزيد بن علىّ. انظر مختصر ابن خالويه (ص ١٣٨) والبحر المحيط (٨ / ٣٦).
(٤) قاله قتادة فيما أخرجه ابن جرير (٢٥ / ١٢١).