يقول الحق جل جلاله : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ) عدم عبادتنا للملائكة (ما عَبَدْناهُمْ) ، أرادوا بذلك بيان أن ما فعلوه مرضى عنده تعالى ، ولو لا ذلك ما خلّى بينهم وبينها ، ويجاب : بأنه تعالى قد يخلى بين العبد ومعصيته ، لينفذ فيه ما سبق من درك الوعيد. وتعلقت المعتزلة بظاهر الآية فى أن الله تعالى لم يشأ الكفر من الكافر ، وإنما شاء الإيمان ، فإنّ الكفار ادّعوا أن الله شاء منهم الكفر ، وما شاء منهم ترك عبادة الأصنام ، حيث قالوا : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي : لو شاء بنا أن نترك عبادة الأصنام لمنعنا عن عبادتها ، لكنه لم يشأ ذلك. والله تعالى ردّ عليهم قولهم ، واعتقادهم ، بقوله : (ما لَهُمْ بِذلِكَ) القول (مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) : يكذبون ، ومعنى الآية عندنا : أنهم أرادوا بالمشيئة : الرضا ، وقالوا : لو لم يرض بذلك لعجّل عقوبتنا ، ولمنعنا من عبادتها مع قهر واضطرار ، وإذ لم يفعل ذلك فقد رضى بذلك ، فردّ الله عليهم بقوله : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ...) الآية. أو : قالوا هذا القول استهزاء ، لا جدا واعتقادا ، فأكذبهم وجهّلهم حيث لم يقولوه اعتقادا ، كما قالوا (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) (١). وهذا كلام حق أرادوا به باطلا. انظر النّسفى.
قلت : ما تمسكوا به من قوله : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) من الاحتجاج بالقدر ، وهو لا ينفع فى هذه الدار ، لأنه من التمسك بالحقيقة الخالية عن الشريعة ، وهى بطالة وزندقة ، ولذلك ردّهم الله تعالى إلى التمسك بالشريعة بقوله : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) ؛ من قبل القرآن ، أو : من قبل ادعائهم ذلك ، ينطق بصحة ما يدّعونه ، (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) ؛ آخذون.
(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) ؛ على دين وقلدناهم. والأمّة فى الأصل : الطريقة التي تؤمّ وتقصد (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي : لم يأتوا بحجة نقلية ولا عقلية ، ولا سند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم. والظرف : صلة لمهتدون ، أو : هما خبران.
(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) ؛ من نبىّ (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي : منعّموها ، وهم الذين أترفتهم النّعمة ، أي : أبطرتهم ، فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ، ويعافون مشاقّ الدين وتكاليفه ، قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) ، وفيه تسلية للنبى صلىاللهعليهوسلم ، وبيان أن التقليد فيهم ضلال قديم. وتخصيص المترفين بتلك المقالة ؛ للإيذان بأن التنعم بالشهوات ، وحب البطالة ، هو الذي صرفهم عن النظر إلى التقليد.
" قل" (٢) ، هو حكاية لما جرى بين المنذرين وبين أممهم ، عند تعللهم بتقليد آبائهم ، أي : قيل لكلّ نذير وأوحى إليه : أن قل ، وليس خطابا لنبينا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بدليل ما بعده من قوله : (قالُوا ..) إلخ. وقيل :
__________________
(١) من الآية ٤٧ من سورة يس.
(٢) قرأ ابن عامر ، وحفص «قال» على الخبر ، والباقون «قل» بغير ألف على الأمر. انظر الإتحاف (٢ / ٤٥٥).