ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفن به ، وقد جعلوا له سبحانه بألسنتهم ، واعتقادهم مع ذلك الاعتراف ، من عباده جزءا. وعبّر بالجزء لمزيد استحالته فى حق الواحد الأحد ، من جميع الجهات. وقرأ أبو بكر وحمد بضمتين. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) ؛ لجحود للنعمة ، ظاهر الكفران ، مبالغ فيه ؛ لأن نسبة الولد إليه أشنع الكفر. والكفر أصل الكفران كله.
ثم ردّ عليهم بقوله : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) ، الهمزة للإنكار ، تجهيلا [وتعجيبا] (١) من شأنهم ، حيث ادّعوا أنه اختار لنفسه أخس الأشياء ، ولهم الأعلى ، أي : بل أتخذ لنفسه أخس الصنفين ، واختار لكم أفضلهما؟ على معنى : هبوا أنكم اجترأتم إضافة جنس الولد إليه سبحانه ، مع استحالته وامتناعه ، أما كان لكم شىء من العقل ، ونبذة من الحياء ، حتى اجترأتم على التفوّه بهذه العظيمة ، الخارقة للمعقول ، من ادعاء أنه تعالى آثركم على نفسه بخير الصنفين وأعلاهما ، وترك له شرهما وأدناهما؟. وتنكير «بنات» ، وتعريف «البنين» لما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة.
وجملة : (وَأَصْفاكُمْ) : إما عطف على (اتَّخَذَ) ، داخل فى حكم [التعجيب] (٢) والإنكار ، أو : حال من فاعله ، بإضمار قد ، أو : بدونه ، على الخلاف. والالتفات إلى الخطاب لتأكيد الإجرام وتشديد التوبيخ.
ثم قرره بقوله : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي : وإذا أخبر أحدهم بولادة ما جعل مثلا له سبحانه ، وهى الأنثى ، لأنهم جعلوا الملائكة بنات الله ، وجزءا منه ؛ إذ الولد لا بد أن يجانس الوالد ويشابهه. (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) يعنى : أنهم نسبوا إليه هذا الجنس ، ومن حالهم : أن أحدهم إذا قيل له : قد ولدت لك بنت ، اغتم ، واربدّ وجهه غيظا وتأسفا ، وهو مملوء من الكرب. والظلول : بمعنى الصيرورة ، أي : صار أسود فى الغاية من سوء ما بشر به.
(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا) (٣) (فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي : أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته ، وهو أنه ينشأ فى الحلية ، أي : يتربّى فى الزينة والتخنث ، وإذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ، ومجاراة الرّجال ، كان غير مبين ، ليس عنده بيان ، ولا يأتى ببرهان ؛ لضعف عقولهن. قال مقاتل : لا تتكلم المرأة إلا وتأتى بالحجة عليها ـ أي : فى الغالب ـ وفيه : أنه جعل النّشأ فى الزينة من المعايب. فعلى الرّجل أن يجتنب ذلك ، له ولأولاده ، ويتزين بلباس التقوى. و «من» منصوب المحل ، أي : أو جعلوا من يربى فى الحلية ـ يعنى البنات ـ لله ـ عزوجل. وقرأ الأخوان وحفص ؛ «ينشأ» ، أي : يربّى.
__________________
(١) فى الأصول [وتعجبا].
(٢) فى الأصول [التعجب].
(٣) قرأ حفص وحمزة والكسائي : «ينشأ» بضم الياء ، وفتح النّون ، وتشديد الشين ، مضارع «نشّأ» معدّى بالتضعيف ، مبنيا للمفعول.
وقرأ الباقون : بفتح الياء ، وسكون النّون : وتخفيف الشين من «نشأ» لازم ، مبنى للفاعل. انظر الإتحاف (٢ / ٤٥٤).