وقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ...) (١) إلخ ، قال القشيري : كما جعلها قرارا لأشباحهم ، جعل الأشباح قرارا لأرواحهم ؛ فهى سكّان النّفوس ، كما أن الخلق سكّان الأرض ، فإذا انتهت مدة كون النّفوس ، حكم الله بخرابها .. كذلك إذا فارقت الأرواح الأشباح بالكليّة ، قضى الله بخرابها.
ثم قال فى قوله : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) : وكما يحيى الأرض بالمطر يحيى القلوب بحسن النّظر. والذي خلق من الأزواج أصناف الخلق ، كذلك حبس عليكم الأحوال كلها ، فمن رغبة فى الخيرات ، وخوف يحملكم على ترك الزلات ، ورجاء يبعثكم على فعل الطاعات ، طمعا فى المثوبات ، وغير ذلك من فنون الصفات ، وكما سخّر الأنعام ، وأعظم المنّة بذلك ، سخّر للمؤمنين مركب التوفيق ، يحملهم عليه إلى بساط الطاعة ، وسهّل للمريدين مركب الإرادة ، وحملهم عليه إلى عرصات الجود ، وفضاء الشهود ، وسهّل للعارفين مركب الهمّة ، فأناخوا بالحضرة القدسية ، وعند ذلك محط الكافة ؛ ثم لا تخرق سرادقات العزة همّة مخلوق ، سواء كان ملكا مقرّبا ، أو نبيّا مرسلا ، أو وليّا مكرّما. فعند سطوات العزّ يتلاشى كلّ مخلوق ، ويقف وراءها كلّ محدث مسبوق. ه. ببعض المعنى. وسرادقات العز : حجاب الكبرياء ، فلا تحصل الإحاطة بكنه الرّبوبية لأحد من الخلق. ولهذا يبقى الترقي أبدا للعارفين ، فى هذه الدار ، وفى تلك الدار ، ولا يحصل على غاية أسرار الرّبوبية أحد ، ولو بقي يترقى أبدا سرمدا. والله تعالى أعلم.
ثم أبطل مذهب أهل الشرك ، فقال :
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩))
يقول الحق جل جلاله : (وَجَعَلُوا) أي : المشركين (لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، فجعلوهم جزءا له ، وبعضا منه ، كما يكون الولد لوالده جزءا. وهذا متصل بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ...) إلخ ، أي :
__________________
(١) راجع التعليق على هذه القراءة فى موضعها أثناء التفسير.