(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) أي : ما تركبونه ، يقال : ركبوا فى الفلك ، وركبوا الأنعام ، فغلب المتعدّى بغير واسطة ؛ لقوته [على] (١) المتعدى بواسطة ، فقيل : تركبونه.
(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) : ولتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفلك والأنعام ، (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) ؛ تذكروها بقلوبكم ، معترفين بها بألسنتكم ، مستعظمين لها ، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم ، (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) أي : ذلّل لنا هذا المركوب ، متعجبين من ذلك (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) ؛ مطيقين. يقال : أقرن الشيء : إذا أطاقه ، وأصله : وجده قرينه ؛ لأن الصعب لا يكون قرينا للضعيف إلا إذا ذلله الله وسهّله ، (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي : راجعون. وفيه إيذان بأن حق الرّاكب أن يذكر عند ركوبه مركب الدنيا ، آخر مركبه منها ، وهو : الجنازة ؛ فيبنى أموره فى مسيره على تلك الملاحظة ، حتى لا يخطر بباله شىء من زينة الدنيا ، وملاهيها وأشغالها.
وعن النّبى صلىاللهعليهوسلم «أنه كان إذا وضع رجله فى الرّكاب ، قال : «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله الذى سخر لنا هذا ... إلى : (لَمُنْقَلِبُونَ) ، ثم كبّر «ثلاثا ، وهلل ثلاثا ، ثم قال : «اللهم اغفر لى ..» (٢) ، وحكى أن قوما ركبوا ، وقالوا : («سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا ...) الآية ، وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هزالا ، فقال : إنى مقرن لهذه ـ أي مطيق ـ فسقط منها لوثبتها ، واندقت عنقه (٣). وينبغى ألا يكون ركوب العاقل للشهرة والتلذذ ، بل للاعتبار ، فيحمد الله ويشكره على ما أولاه من نعمه ، وسخّر له من أنعامه.
الإشارة : قد اتفقت الملل كلها على وجود الصانع ، إلا من لا عبرة به من الفلاسفة ، وإنما كفر من كفر بالإشراك ، أو : بوصف الحق على غير ما هو عليه ، أو : بجحد الرّسول. وقد تواطأت الأدلة العقلية والسمعية على وجود الحق وظهوره ، بظهور آثار قدرته ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فدلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه ، وبوجود أسمائه ، على وجود أوصافه ، وبثبوت أوصافه على وجود ذاته. فأهل السلوك يكشف لهم أولا عن وجود آثاره ، ثم عن أسمائه ، ثم عن صفاته ، ثم عن شهود ذاته. وأهل الجذب يكشف لهم أولا عن ذاته ، ثم عن أوصافه ، ثم عن أسمائه ، ثم عن آثاره ، فربما التقيا فى الطريق ، هذا فى ترقيه ، وهذا فى تدليه ، كما فى الحكم.
__________________
(١) فى الأصول (فى) والمثبت من تفسير النّسفى.
(٢) أخرجه ، مطولا ، أبو داود فى (الجهاد ، باب ما يقول الرّجل إذا ركب ٣ / ٧٧ ، ح ٢٦٠٢) والترمذي فى (الدعوات ، باب ما يقول إذا ركب دابة ٥ / ٤٦٧ ح ٣٤٤٦). وقال : [حديث حسن صحيح]. وابن حبان (الأذكار ، باب ما يقول إذا ركب الدابة ح ٢٣٧٠ ـ ٢٣٨١. ص ٥٩١ موارد) والحاكم (٢ / ٩١) وصحّحه على شرط مسلم. من حديث سيدنا على رضي الله عنه وكرم وجهه.
(٣) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥ / ٧١٧) لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن سليمان بن يسار.