منافعها ، واستدفاع مضارها ، ونصبنا لها للحق دلائل آفاقية ، ونفسية ، ومنحناها القدرة على الاستشهاد بها ، ثم لم نقتصر على ذلك المقدار من الألطاف ، بل أرسلنا إليها رسلا ، وأنزلنا عليها كتبا ، بيّنا فيها كيفية الأدب معنا ، وهيئة السير إلى حضرة قدسنا ، وقيّضنا لها جهابذة ، غاصوا على جواهر معانيها ، فاستخرجوا منها كيفية المعاملة معنا ، ظاهرا وباطنا ، وأوعدنا فيها بالعقاب لمن أعرض عنها ، ووعدنا بالثواب الجزيل لمن تمسك بها ، ولم نخلق شيئا باطلا.
(ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، الإشارة إلى خلق العبث ، والظن بمعنى المظنون ، أي : خلقها عبثا هو مظنون الذين كفروا ، وإنما جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث ، وإن لم يصرحوا بذلك ؛ لأنه لمّا كان إنكارهم للبعث ، والثواب ، والحساب ، والعقاب ، التي عليها يدور فلك تكوين العالم ، مؤديا إلى خلقها عبثا ، جعلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه ؛ لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة فى خلق العالم ، فمن جحده فقد جحده الحكمة فى خلق العالم.
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ، الفاء سببية ؛ لإفادة ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل ، وأظهر فى موضع الإضمار للإشعار بأن الكفر علة ثبوت الويل لهم ، و «من النّار» : تعليلية ، كما فى قوله : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) (١) أي : فويل لهم بسبب النّار المترتبة على ظنهم وكفرهم.
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) ، «أم» : منقطعة ، والاستفهام فيها للإنكار ، والمراد أنه لو بطل الجزاء ـ كما تقول الكفرة ـ لا ستوت أحوال أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة ، ومن سوّى بينهما كان سفيها ، ولم يكن حكيما ، أي : بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين فى أقطار الأرض ، كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء ؛ لاستواء الفريقين فى التمتع فى الحياة الدنيا ، بل الكفرة أوفر حظا فيها من المؤمنين ، مع صبر المؤمنين ، وتعبهم فى مشاق الطاعات ، لكن ذلك الجعل محال ، فتعين البعث والجزاء ؛ لرفع الأولين إلى أعلى عليين ، وخفض الآخرين إلى أسفل سافلين.
(أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) ؛ إنكار للتسوية بين الفريقين المذكورين ، وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يساعده المقام ، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ، ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين ، هما أدخل فى إنكار التسوية من الوصفين الأولين. وقيل : قالت قريش للمؤمنين : إنا نعطى من الخير يوم القيامة مثل ما تعطون ، فنزلت (٢).
__________________
(١) من الآية ٧٩ من سورة البقرة.
(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٧ / ٨٧).