الإشارة : قال الورتجبي : ولمّا خرج داود من امتحان الحق وبلائه ، كساه خلعة الرّبوبية ، وألبسه لباس العزة والسلطنة ، كآدم خرج من البلاء ، وجلس فى الأرض على بساط فلك الخلافة ، وذلك بعد كونهما متخلقين بخلق الرحمن ، مصوّرين بصورة الرّوح الأعظم ، فإذا تمكن داود فى العشق ، والمحبة ، والنّبوة ، والرّسالة ، والتخلق ، صار أمره أمر الحق ، ونهيه نهى الحق. ه. وقال ابن عطية : لا يطلق خليفة الله إلا لنبى ، وإطلاقه فى غير الأنبياء تجوّز وغلوّ. ه. قلت : يطلق عند الأولياء على من تحققت حريته ، ورسخت ولايته ، وظهر تصرفه فى الوجود بالهمة ، حتى يكون أمره بأمر الله ، غالبا ، وهو مقام القطبانية ، فالمراتب ثلاث : صلاح ، وولاية ، وخلافة ، فالصلاح لمن صلح ظاهره بالتقوى ، والولاية لمن تحقق شهوده ، مع بقية من نفسه ، بحيث تقل عثراته جدا ، والخلافة لمن تحققت حريته ، وظهرت عصمته بجذب العناية. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) ، الهوى : ما تهواه النّفس ، وتميل إليه ، من الحظوظ الفانية ، قلبية كانت ، كحب الجاه ، والمال ، وكالميل فى الحكم عن صريح الحق ، أو : نفسانية ، كالتأنق فى المآكل ، والمشارب ، والمناكح. واتباع الهوى : طلبه ، والسعى فى تحصيله ، فإن كان حراما قدح فى الإيمان ، وإن كان مباحا قدح فى نور مقام الإحسان ، فإن تيسّر من غير طلب وتشوف ، وكان موافقا للسان الشرع ، جاز تناول الكفاية منه ، مع الشكر وشهود المنّة. قال عمر بن عبد العزيز : إذا وافق الحقّ الهوى ، كان كالزبد بالبرسام ، أي : الكسر. وفى الحكم : «لا يخاف أن تلتبس الطرق عليك ، إنما يخاف من غلبة الهوى عليك» (١) وغلبة الهوى : قهره وسلطنته ، بحيث لا يملك نفسه عند هيجان شهوتها.
وقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) أي : بل خلقناهما لنعرف بهما ، فما نصبت الكائنات لتراها ، بل لترى فيها مولاها. وقد تقدم هذا مرارا.
ولا ينال هذا المقام إلا بعبادة التفكر والتدبر ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))
قلت : «كتاب» : خبر عن مضمر ، أي : هذا ، و «أنزلناه» : صفة له ، و «مبارك» : خبر ثان ، أو : صفة الكتاب ، و «لّيدبروا» : متعلق بأنزلناه.
__________________
(١) حكمة رقم ١٠٧ ، انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي ص ١٧.