(وَما تَفَرَّقُوا) أي : أهل الكتاب من بعد أنبيائهم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) ؛ إلا بعد أن علموا أن الفرقة ضلال ، وأمر متوعّد عليه على ألسنة الرّسل ، (بَغْياً بَيْنَهُمْ) حسدا ، وطلبا للرئاسة ، والاستطالة بغير حق ، أو : ما تفرقوا فى الدين الذي دعوا إليه ، وهو الإسلام ، ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بحقيقته ؛ لما يشهدونه فى رسول الله صلىاللهعليهوسلم والقرآن من دلائل الحقيّة ، حسبما وجدوه فى كتتبهم ، أو : العلم بمبعثه صلىاللهعليهوسلم.
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) ، وهى العدة بتأخير العقوبة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي : لوقع القضاء بينهم ، وأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترفوا. (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وهم المشركون (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي : القرآن (مُرِيبٍ) ؛ موقع فى الرّيبة. وهو بيان لكيفية كفر المشركين ، بعد بيان كيفية كفر أهل الكتاب ، أي : وإن المشركين الذين أوتوا القرآن من بعدهم ، أي : من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم ، لفى شك من القرآن مريب. والظاهر : أن التفرق المذكور هنا إنما هو فى شأن الرّسول صلىاللهعليهوسلم ؛ لأن سياق النّظم إنما هو لبيان أحوال هذه الأمة ، وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم ، أجمع عليه أولئك الأعلام ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ تأكيدا لوجوب إقامته ، وتشديدا للزجر عن التفرق والاختلاف. فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الإخلال بذلك المرام. قاله أبو السعود.
الإشارة : الذي شرع الله من الدين لأقوياء عباده ، ووصى به خواص أنبيائه : أن يشاهدوه وحده فى الباطن ، ويقوموا برسم العبودية فى الظاهر ، وهذا هو إقامة الدين ، الذي يجب الاتفاق عليه ، لكن لا ينال هذا إلا بعد موت النفوس ، وحط الرّؤوس ، وبذل الفلوس. ولذلك كبر على أهل الفرق ، قال تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) ، فإذا وفق العبد لفعل ما تقدم ، وسلك طريقه ؛ اجتباه ربه لحضرته ، بعد أن هداه لسلوك طريقته. قال تعالى : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) فالاجتباء جذب ، والإنابة سلوك ، الاجتباء للحقيقة ، والإنابة للشريعة والطريقة. وقدّم الاجتباء على الاهتداء اهتماما بأمره ؛ لأن الجذب عناية يختص به أهل الولاية ، والإنابة هداية ينالها كلّ من تمسك بالشريعة. وحقيقة الجذب : شهود الخلق بلا خلق ، وحقيقة السلوك المحض : شهود الخلق بلا حق ، وحقيقة الجذب فى السلوك : شهود الحق فى قوالب الخلق ، أو : شهود الخلق فى مظهر الحق.
فالناس ثلاثة : مجذوبون فقط ، سالكون فقط ، مجذبون سالكون ، فالأولان لا يصلحان للتربية ، والثالث هو الذي يصلح للتربية ، وهو الذي يتقدمه السلوك ، ثم يختطف إلى الحضرة فى مقام الفناء ، ثم يرجع إلى السلوك فى مقام البقاء. وما وقع من التفرق والاختلاف فى جانب النّبوة ، يقع فى جانب الولاية ، سنّه ماضية ، فيجب على الداعي إلى الله أن يجهد نفسه فى الدعاء إليه ، ولا يبالى باختلافهم ، كما قال تعالى :