قلت : والظاهر أنه تفنن (١) ، وفرار من تكرار لفظ الوحى ؛ إذ الموحى به هو قوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) وهو الذي أوحى إلى نبينا ـ عليه الصلاة والسّلام. وقال أبو السعود : والتعبير عن ذلك عند نسبته صلىاللهعليهوسلم ب «الذي» لتفخيم شأنه من تلك الحيثية ، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع [فى] (٢) الآيات المذكورة ـ يعنى فى صدر السورة ، من قوله : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ...) وفى آخرها من قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) ، ولما فى الإيحاء من التصريح برسالته ـ صلىاللهعليهوسلم ـ القامع لإنكار الكفرة. والالتفات إلى نون العظمة إظهارا لكمال الاعتناء بإيحائه ، وهو السر فى تقديمه [على ما قبله] (٣) مع تقدمه عليه زمانا. وتقديم وصية نوح ـ عليهالسلام ـ للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينا قديما ـ أي : فلا ينبغى إنكاره ـ وتوجيه الخطاب إليه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بطريق التلوين ؛ للتشريف ، والتنبيه على أنه تعالى شرع لهم على لسانه عليه الصلاة والسّلام. ه.
ثم فسّر ما وصاهم به فقال : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أي : دين الإسلام ، الذي هو توحيد الله تعالى ، وطاعته ، والإيمان بكتبه ورسله ، وبيوم الجزاء ، وسائر أركان الإيمان. والمراد بإقامته : تعديل أركانه ، وحفظه من أن يقع فيه زيغ ، والمواظبة عليه ، والتشمير فى القيام به. وموضع «أن أقيموا» إما : نصب ، بدل من مفعول «شرع» ، أو : رفع ، خبر جواب عن سؤال مقدر ، كأن قائلا قال : وما ذاك؟ فقال : هو إقامة الدين. (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ؛ ولا تختلفوا فى الدين ، فالجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ، والمراد : الاختلاف فى الأصول ، دون الفروع المختلفة حسب اختلاف الأمم باختلاف الأعصار ، كما ينطق به قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (٤).
(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) أي : عظم وشقّ عليهم (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من التوحيد ، ورفض عبادة الأصنام ، الذي هو إقامة الدين ، (اللهُ يَجْتَبِي) أي : يجلب ويجمع (إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق والتسديد ، (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) ؛ يقبل على طاعته. فالاجتباء يرجع إلى تصديق القلب ، والإنابة إلى توفيق الطاعة فى الظاهر.
__________________
(١) كتب على هامش النّسخة الأم مايلى : لا يا أستاذ ما هو بتفنن ، بل هو مقصود لحكمة ، ولو كان للتفنن لما كرر الوصية مرتين ، وخص لفظ الوحى بسيد البشر صلىاللهعليهوسلم ، ولا بدل «وصينا» الثانية بلفظ الأمر ، كأمرنا وأوجبنا وفرضنا ونحو ذلك. فالحق أنه عبّر فى حق الأنبياء بالوصية دون الوحى ؛ للإشارة إلى أنهم مجرد نواب عنه صلىاللهعليهوسلم. ه.
(٢) فى الأصول [من].
(٣) فى تفسير أبى السعود [على ما بعده].
(٤) فى الآية ٤٨ من سورة المائدة.