الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤))
يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ) (١) من كفار المتقدمين والمتأخرين (إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) ؛ يضمون ويساقون إلى النار ، ويحبس أولهم على آخرهم ، فيستوقف سوابقهم حتى تلحق بهم تواليهم ، وهى عبارة عن كثرة أهل النار ، وأصله : من وزعته ، أي : كففته. (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي : حضروها ، و «حتى» : غاية للحشر ، أو : ليوزعون ، و «ما» : مزيدة ؛ لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور ، فبمجرد حضورهم (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) أي : بشراتهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فى الدنيا ، من فنون الكفر والمعاصي ، بأن ينطقها الله تعالى ، ويظهر عليها آثار ما اقترفوا بها. وعن ابن عباس رضي الله عنه : أن المراد بشهادة الجلود : شهادة الفروج ، كقول الشاعر :
أو سالم من قد تث |
|
نّى جلده وابيضّ رأسه (٢) |
فكنّى بجلده عن فرحه ، وهو الأنسب ؛ لتخصيص السؤال بها فى قوله تعالى : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) ، فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحا ، وأجلب للحزن والعقوبة ، مما تشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطها. روى : أن العبد يقول يوم القيامة : يا رب ، أليس قد وعدتني ألا تظلمنى؟ فيقول تعالى : فإن لك ذلك ، قال : فإنى لا أقبل علىّ شاهدا إلا من نفسى ، قال تعالى : أو ليس كفى بي شهيدا ، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال : فيختم على فيه ، وتتكلم أركانه بما كان يعمل ، فيقول لهن : بعدا لكنّ وسحقا ، عنكنّ كنت أجادل» (٣).
(قالُوا) فى جوابهم : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) من الحيوانات ، وأقدرنا على بيان الواقع ، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح ، وما كتمناها. أو : ما نطقنا باختيارنا ، بل انتقنا الله الذي أنطق كل شىء. وقيل : سألوها سؤال تعجب ، فالمعنى حينئذ : وليس نطقنا بعجب من قدرة الله ـ تعالى ـ الذي أنطق كل شىء ، (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ؛ فإنّ من قدر على خلقكم أول مرة ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ،
__________________
(١) قرأ نافع ويعقوب «نحشر» بنون العظمة. و «أعداء» بالنصب ، مفعول به. وقرأ الباقون بياء الغيب مضمومة ، و «أعداء» بالرفع على النيابة. انظر الإتحاف (٢ / ٤٤٣).
(٢) جاء البيت فى تفسير القرطبي (٧ / ٥٩٧٠) مسبوقا ببيت آخر هو :
المرء يسعى للسلا |
|
مة والسلامة حسبه |
وعزاه القرطبي لعامر بن جؤية.
(٣) أخرجه مسلم فى (الزهد والرقائق ، ٤ / ٢٢٨١ ، ح ٢٩٦٩) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.