لا يتعجب من إنطاقه جوارحكم. ولعل صيغة المضارع ، مع أن هذه المحاورة بعد البعث والرجع ، كما أن المراد بالرجوع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث ، بل ما يعمه ، وما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند التخاطب ، على تغليب المتوقع على الواقع ، مع ما فيه من مراعاة الفواصل ، فهذا على أنه من تتمة كلام الجلود ، وقيل : هو من كلام الحق ـ تعالى ـ لهم ، فيوقف على «شىء» وهو ضعيف. وكذا قوله :
(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) ، يحتمل أن يكون من كلام الجلود ، أو : من كلام الله ـ عزوجل ـ وهو الظاهر ، أي : وما كنتم تستترون فى الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم ، ولو خفتم من ذلك ما استترتم بها ، (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) من القبائح الخفية ، فلا يظهرها فى الآخرة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كنت مستترا بأستار الكعبة ، فدخل ثلاثة نفر ؛ وثقفيان وقرشى ، أو : قرشيان وثقفى ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر : سمع جهرنا ولا يسمع ما أخفينا ، فذكر ذلك للنبى صلىاللهعليهوسلم ، فأنزل الله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ...) الآية (١) ، فالحكم المحكي حينئذ يكون خاصا بمن كان على ذلك الاعتقاد من الكفرة. انظر أبا السعود.
(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) ؛ أهلككم ، ف «ذلك» : مبتدأ ، و «ظنكم» : خبر ، و «الذي ظننتم بربكم» : صفة ، و «أرادكم» : خبر ثان ، أو : ظنكم : بدل من «ذلك» و «أرداكم» : خبر ، (فَأَصْبَحْتُمْ) بسبب الظن السوء (مِنَ الْخاسِرِينَ) إذ صار ما منحوا لسعادة الدارين سببا لشقاء النشأتين.
(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً) ؛ مقام (لَهُمْ) أي : فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ، ولم ينفكوا به من الثوى فى النار ، (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) أي : يسألوا العتبى ؛ وهو الاسترضاء (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) ؛ المجابين إليها ، أي : وإن يطلبوا الاسترضاء من الله ـ تعالى ـ ليرضى عنهم ، فما هم من المرضين ؛ لما تحتم عليهم واستوجبوه من السخط ، قال الجوهري : أعتبنى فلان : إذا عاد إلى مسرتى ، راجعا عن الإساءة ، والاسم منه : العتبى ، يقال : استعتبته فأعتبنى ، أي : استرضيته فأرضانى. وقال الهروي : إن يستقيلوا ربهم لم يقلهم ، أي : لم يردهم إلى الدنيا ، أو : إن أقالهم وردهم لم يعملوا بطاعته ، كقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٢).
__________________
(١) أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة حم السجدة ، باب : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ..) ح ٤٨١٦) ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، ٤ / ٢١٤١ ح ٢٧٧٥).
(٢) من الآية ٢٨ من سورة الأنعام.