فنظرنا في قولهم : إن طبع الخلاء يجتذب هذه الأجسام إلى نفسه كما يقول من يثبت الخلاء فوجدناه دعوى بلا دليل فسقط.
ثم تأملناه أخرى : فوجدناه عائدا عليهم ، لأنه إذا اجتذبت الأجسام ولا بد فقد صار ملاء ، فالملاء حاضر موجود ، والخلاء دعوى لا برهان عليها ؛ فسقطت وثبت عدم الخلاء.
ثم نظرنا في قولنا ، فوجدناه يعلم بالمشاهدة ، وذلك أننا لم نجد لا بالحس ولا بتوهم العقل بالإمكان مكانا يبقى خاليا قطّ دون متمكّن ، فصحّ الملاء بالضرورة وبطل الخلاء ، إذ لم يقم عليه دليل ولا وجد قط ، وبالله تعالى التوفيق.
ثم نقول لهم : إن كان خارج الفلك خلاء على قولكم فلا يخلو من أن يكون جنس هذا الخلاء الذي تدّعون أنه يجتذب الأجسام بطبعه ، أو يكون من غير جنسه ، لا بد من أحد هذين الوجهين ضرورة ، ولا سبيل إلى ثالث البتة.
فإن قالوا : هو من جنسه ـ وهو قولهم ـ فقد أقروا بأن طبع هذا الخلاء الغالب بجميع الطبائع هو أن يجتذب المتمكنات إلى نفسه فيمتلئ بها ، حتى أنه يحيل قوى العناصر عن طباعها ، فوجب أن يكون ذلك الخلاء الخارج عن الفلك كذلك أيضا ضرورة ، لأن هذه صفة طبعه وجنسه ، فوجب بذلك ضرورة أن يكون متمكنا فيه ولا بدّ وإذا كان هذا ـ وذلك الخلاء عندهم لا نهاية له ـ فالجسم المالئ له أيضا لا نهاية له ، وقد قدّمنا البراهين الضرورية أنه لا يجوز وجود جسم لا نهاية له وهذا القول يوجب وجود جسم لا نهاية له ، وكل ما أوجب كون ما لا يكون فهو باطل لا يكون أصلا فالخلاء باطل.
ولو كان ذلك أيضا لكان ملاء لا خلاء ، وهذا خلاف قولهم.
ثم يقال لهم : بأي شيء عرفتموه؟ وبم استدللتم عليه؟ وكيف وجب أن تسموه خلاء ، وهو ليس خلاء ، وهذا لا مخلص لهم منه. وبالله تعالى التوفيق. وهم في هذا سواء ومن قال : إنّ في مكان خارج من العالم ناسا لا يحدّون بحدّ الناس ، ولا هم كهؤلاء الناس ، أو من قال : إنّ في خارج الفلك نارا غير محرقة ليست من جنس هذه النار وكل هذا حمق وهوس.
قال «أبو محمد» : وكل ما أدخلنا في الباب من إبطال قولهم بأزلية المكان والزمان ، فهو لازم في قولهم بأزلية النفس أيضا ولا فرق ، وبالله تعالى التوفيق.