«يوحانذا» بنت «لاوي» وهذا في شريعة «موسى» حرام ، ولا فرق في العقول بين شيء أحلّه الله تعالى ثم حرّمه ، وبين شيء حرّمه الله ثم أحلّه.
والمفرق بين هذين مكابر للعيان ، مجاهر بالقحة (١) ، ولو قلب عليه قالب كلامه ما كان بينهما فرق ، وفي توراتهم أن الله تعالى افترض عليهم بالوحي إلى موسى عليهالسلام ، وأوهم موسى بذلك في نص توراتهم : ألّا يتركوا من الأمم السبعة الذين كانوا سكانا في فلسطين والأردن أحدا أصلا إلا قتلوه ثم إنه لما اختدعتهم الأمة التي يقال لها «عباوون» : وهي إحدى تلك الأمم التي افترض عليهم قتلهم واستئصالهم ، فتحيّلوا عليهم ، وأظهروا لهم أنهم أتوا من بلاد بعيدة حتى عاهدوهم ، فلما عرفوا بعد ذلك أنهم من السكان في الأرض التي أمروا بقتل أهلها حرّم الله عزوجل عليهم قتلهم على لسان «يوشع» النبي بنص كتاب «يوشع» عندهم ، فأبقوهم ينقلون الماء والحطب إلى مكان التقديس ، وهذا هو النسخ الذي أنكروا بلا كلفة.
وفي توراتهم «البداء» (٢) الذي هو أشدّ من النسخ ، وذلك أنّ فيها : أن الله تعالى قال لموسى عليهالسلام : سأهلك هذه الأمة ، وأقدمك على أمة أخرى عظيمة ، فلم يزل موسى يرغب إلى الله تعالى في أن لا يفعل ذلك حتى أجابه وأمسك عنهم ، وهذا هو «البداء» بعينه ، والكذب المنفيان عن الله تعالى ، لأنه ذكر أن الله تعالى أخبر أنه سيهلكهم ، ويقدمه على غيرهم ثم لم يفعل فهذا هو الكذب بعينه تعالى الله عنه. وفي سفر «إشعيا» أن الله تعالى سيرتب في آخر الزمان من الفرس خدّاما لبيته.
قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا هو النسخ بعينه لأن التوراة موجبة أن لا يخدم في البيت المقدس أحد غير «بني لاوي» بن يعقوب على حسب مراتبهم في الخدمة. فعلى أيّ وجه أنزلوا هذا القول من «إشعيا»؟. فهو نسخ لما في التوراة على كل حال ، وأما في الحقيقة فهو إنذار بالملة الإسلامية التي صار فيها الفرس والعرب
__________________
(١) القحة : قلّة الحياء والاجتراء على اقتراف القبائح (المعجم الوسيط : ص ١٠٤٨).
(٢) البداء : يطلق في لغة العرب على معنيين متقاربين : أحدهما الظهور بعد الخفاء ، ومنه قول الله سبحانه : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر : ٤٧]. (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) [الجاثية : ٣٣] ، ومنه قولهم : بدا لنا سور المدينة. والآخر : نشأة رأي جديد لم يكن موجودا ، قال في القاموس : «وبدا له في الأمر بدوّا وبداء وبداة : أي نشأ له فيه رأي». ومنه قول الله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) [يوسف : ٣٥] : أي نشأ لهم في يوسف رأي جديد ، هو أن يسجن سجنا وقتيّا. وذانك معنيان متقاربان للبداء ، وكلاهما مستحيل على الله تعالى لما يلزمهما من سبق الجهل وحدوث العلم ، والجهل والحدوث عليه محالان.