الثاني : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِه
__________________
فالاستدلال بآية الشورى ٥٢ على أنّ النبي صلىاللهعليهوآله لم يكن متلبّسا بالإيمان قبل البعثة مدفوع بأنّه لا دلالة في الآية على ذلك فإنّك عرفت أنّ الآية مسوقة لبيان ما ذكرناه وتلوناه عليك آنفا.
فالآية لا دلالة فيها على عدم كون النبي صلىاللهعليهوآله مؤمنا بالله تعالى موحّدا قبل البعثة صالحا في عمله وعاملا بشريعة نفسه المقدّسة ، كما عليه إجماع الشيعة الإماميّة ، فإنّه كان يوحى إليه بأشياء تخصّه ، وكان يعمل بالوحي لا اتباعا لشريعة وأنّه ولد نبيّا ، بمعنى كان فيه جميع كمالات النبوّة وأوصاف الرسالة من حين الولادة بل وقبلها في عالم النورانية ، ولذا قال صلىاللهعليهوآله : كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين كما رواه الفريقان.
وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : ولقد قرن الله به صلىاللهعليهوآله من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ، فعلى ما بيّناه في تفسير الآية الشريفة يجمع بينها وبين الأخبار الواردة من طرق أهل البيت عليهمالسلام أنّ الروح مع النبيّ صلىاللهعليهوآله يخبره ويسدّده ، وهو مع الأئمّةعليهمالسلام من بعده ، وأنّ المراد من الروح في الآية هو الروح القدس وهو معهم عليهمالسلام وفيهم كما في التعبيرات الواردة في الأحاديث ، فراجع.
وأمّا القول بأنّ المراد من الروح هو جبرائيل فهو يستلزم المجاز بأن يكون (أَوْحَيْنا) بمعنى أرسلنا فلا يصار إليه من غير دليل ، مضافا إلى أنّ حمل (أَوْحَيْنا) على الحقيقة مع القول بأنّ المراد من الروح هو جبرائيل لا يستقيم ؛ فإنّ جبرائيل هو واسطة الوحي لا أنّه الوحي إلى النبي صلىاللهعليهوآله ، فإنّه لا معنى له كما بيّناه في جنّة المأوى فلاحظ ص ٣٣٧ ـ ٣٣٦.
وأمّا قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) سورة يوسف آية ٢ فالغفلة في اللغة : غيبة الشيء عن البال وعدم التوجّه إليه بعد العلم به لا الجهل به بتاتا ، والغفلة عن الشيء : تركه وأنت له ذاكر ، فمعنى الآية الشريفة : نحن نقص عليك أحسن القصص ، أي القرآن أو قصة يوسف كما هو الظاهر بوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبل الوحي لمن الغافلين ، أي لم يكن لك قبل الوحي توجّه إليه ، فإنّك كنت عالما بالقرآن المنزل عليك دفعة واحدة في ليلة القدر ، ولكن كنت في غفلة من ذلك بعدم التوجّه منك إليه قبل نزول الوحي عليك ، وتوجّهت بنزول القرآن تدريجا إلى ما كنت عالما به من قبل ، ولكن كنت غافلا بعدم التوجّه منك إليه. وليست في الآية دلالة على أنّ النبي صلىاللهعليهوآله كان جاهلا به قبل البعث على الرسالة وإظهار النبوّة بل في التعبير بالغفلة بقوله : (لَمِنَ الْغافِلِينَ) دلالة على ما بيّناه.
فمن باب المثال نقول : إنّ الناظر إلى المرآة ينظر إلى صورته فيها غافلا عن نفس المرآة ، بعدم توجّهه إليها مع علمه بها فلا يقال : إنّ الناظر لا علم له بها أصلا بل له العلم بها وينظر إلى الصورة ، ولكن لا يتوجّه إلى نفس المرآة.
وأمّا نزول القرآن دفعة واحدة إلى رسول الله في ليلة القدر ثمّ نزوله تدريجا في مدّة ثلاث وعشرين سنة فهو الظاهر المكشوف من القرآن الكريم ومن السنة المروية عن العترة الطاهرة سلام الله عليهم. وأمّا ما تفوّه به بعض الجهّال من إنكار ذلك فهو ممّا لا يعبأ به كما هو مبيّن في محلّه.