نمط خاص من النظم في بعض الآيات
إنّ الأهرام التي أقامها فراعنة مصر ، فكانت إحدى عجائب الدنيا ، قد بنيت حجراً على حجر دون أن تتماسك أحجارها بأيّة مادة غريبة دخلت بينها ، وإنّما كان تماسكها تماسكاً ذاتياً ، وتجاذباً أحكمته هندسة البناء ، فاستدعى الحجر صاحبه إليه ، واعتنقه في تآلف وترابط . وإنّه بقدر ما كان بين هذه الأحجار من روابط ذاتية ، بقدر ما يكون لها من ثبات وروعة على الزمن ، ولكنها ـ مع هذا ـ صنعة إنسان ، مقدور عليه الفناء ، وإذن فلا خلود لها ، لأنّ الفاني لا يخلق إلّا فانياً .
فكان من إعجاز القرآن أن أقام أبنية من النظم الكلامي غير مستندة إلّا على ما بينها من تناسق هندسي ، وتجاذب روحي ، وترابط الكلمات ، وتعانق الآيات ، أحكمه الحكيم العليم ، وقدَّره اللطيف الخبير .
وإليك نماذج من هذا النوع من النظم :
١ ـ يقول سبحانه : ( الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ ، لَا رَيْبَ فِيهِ ، هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) (١) .
هذه جمل أربع لم يتوسط فيها حروف العطف ، حتى تعطف بعضها على بعض وتجعل منها كياناً واحداً . ومع ذلك نرى فيها من التلاحم والتناسق ما يجعلها تبدو جملة واحدة ، بل كلمة واحدة .
٢ ـ يقول سبحانه : ( الرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) (٢) .
فهذه الآيات تراها كأنّها جملة واحدة في اتّساقها وتجاذبها ، وتعانقها لفظاً ومعنى . فإنّها تساوقت ألفاظها ، وتناغمت حروفها في هذا النغم العُلْوي ، كما
__________________
(١) سورة البقرة : الآيات ١ ـ ٣ .
(٢) سورة الرحمن : الآيات ١ ـ ٥ .