قوله تعالى : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) قد سبق تفسيره في سورة البقرة (١).
قوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَ) أي : جنّبني وإيّاهم ، والمعنى : ثبّتني على اجتناب عبادتها. (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) يعني : الأصنام ، وهي لا توصف بالإضلال ولا بالفعل ، ولكنّهم لمّا ضلّوا بسببها ، كانت كأنّها أضلّتهم. (فَمَنْ تَبِعَنِي) أي : على ديني التّوحيد (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي : فهو على ملّتي ، (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ومن عصاني ثمّ تاب فإنك غفور رحيم ، قاله السّدّيّ. والثاني : ومن عصاني فيما دون الشّرك ، قاله مقاتل بن حيّان. والثالث : ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم أن تتوب عليه فتهديه إلى التّوحيد ، قاله مقاتل بن سليمان. وقال ابن الأنباري : يحتمل أن يكون دعا بهذا قبل أن يعلمه الله تعالى أنه لا يغفر الشّرك كما استغفر لأبيه.
(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧))
قوله تعالى : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) في «من» قولان : أحدهما : أنها للتّبعيض ، قاله الأخفش ، والفرّاء. والثاني : أنها للتوكيد ، والمعنى : أسكنت ذرّيّتي ، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) يعني : مكّة ، ولم يكن فيها حرث ولا ماء. (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إنما سمّي محرّما ، لأنه يحرم استحلال حرماته والاستخفاف بحقّه. فإن قيل : ما وجه قوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ولم يكن هناك بيت حينئذ ، إنما بناه إبراهيم بعد ذلك بمدّة؟ فالجواب من ثلاثة وجوه : أحدها : أنّ الله تعالى حرّم موضع البيت منذ خلق السّماوات والأرض ، قاله ابن السّائب. والثاني : عند بيتك الذي كان قبل أن يرفع أيام الطّوفان. والثالث : عند بيتك الذي قد جرى في سابق علمك أنه يحدث هاهنا ، ذكرهما ابن جرير (٢).
وكان أبو سليمان الدّمشقي يقول : ظاهر الكلام يدلّ على أنّ هذا الدّعاء إنما كان بعد أن بني البيت وصارت مكّة بلدا. والمفسّرون على خلاف ما قال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنّ إبراهيم خرج من الشّام ومعه ابنه إسماعيل وأمّه هاجر ومعه جبريل حتى قدم مكّة وبها ناس يقال لهم : العماليق ، خارجا من مكّة ، والبيت يومئذ ربوة حمراء ، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما؟ قال : نعم ؛ فأنزلهما في مكان من الحجر ، وأمر هاجر أن تتّخذ فيه عريشا ، ثم قال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) الآية وفتح أهل الحجاز ، وأبو عمرو ياء «إني أسكنت».
قوله تعالى : (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) في متعلّق هذه اللام قولان : أحدهما : أنها تتعلّق بقوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ، فالمعنى : جنّبهم الأصنام ليقيموا الصّلاة ، هذا قول مقاتل. والثاني : أنها تتعلّق بقوله تعالى : (أَسْكَنْتُ) ، فالمعنى : أسكنتهم عند بيتك ليقيموا الصلاة ، لأنّ البيت قبلة الصّلوات ، ذكره الماوردي. قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) ، فيه قولان : أحدهما : أنها القلوب ، قاله الأكثرون. قال ابن الأنباري : وإنّما عبّر عن القلوب بالأفئدة ، لقرب القلب من الفؤاد
__________________
(١) سورة البقرة : ١٢٦.
(٢) انظر «تفسير الطبري» ٧ / ٤٦٥.