بأدنى تأمل ، فإن النفوس البشرية وإن تشاركت في أصل القوى والإدراك لكنها متباينة الأقدام فيهما ، وكما ترى في جانب النقصان أغبياء لا يعود عليهم الفكر برادة ، يمكن أن يكون في طرف الزيادة أغنياء عن التفكر والتعلم في أكثر الأشياء وأغلب الأحوال ، فيدركون ما لا يدرك غيرهم ويعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم ، وإليه أشار بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). (وَقَوْمُهُما) يعني بني إسرائيل. (لَنا عابِدُونَ) خادمون منقادون كالعباد.
(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) بالغرق في بحر قلزم.
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة. (لَعَلَّهُمْ) لعل بني إسرائيل ، ولا يجوز عود الضمير إلى (فِرْعَوْنَ) وقومه لأن التوراة نزلت بعد إغراقهم. (يَهْتَدُونَ) إلى المعارف والأحكام.
(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)(٥٠)
(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) بولادتها إياه من غير مسيس فالآية أمر واحد مضاف إليهما ، أو (جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ) آية بأن تكلم في المهد وظهرت منه معجزات أخر (وَأُمَّهُ) آية بأن ولدت من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) أرض بيت المقدس فإنها مرتفعة أو دمشق أو رملة فلسطين أو مصر فإن قراها على الربى ، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء وقرئ «رباوة» بالضم والكسر. (ذاتِ قَرارٍ) مستقر من الأرض منبسطة. وقيل ذات ثمار وزروع فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها. (وَمَعِينٍ) وماء معين ظاهر جار ، فعيل من معن الماء إذا جرى وأصله الإبعاد في الشيء ، أو من الماعون وهو المنفعة لأنه نفاع ، أو مفعول من عانه إذا أدركه بعينه لأنه لظهوره مدرك بالعيون وصف ماءها بذلك لأنه الجامع لأسباب التنزه وطيب المكان.
(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(٥١)
(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) نداء وخطاب لجميع الأنبياء لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أن كلا منهم خوطب به في زمانه ، فيدخل تحته عيسى دخولا أوليا ويكون ابتداء كلام ذكر تنبيها على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة ، وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم واحتجاجا على الرهبانية في رفض الطيبات ، أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا الرسل في تناول ما رزقا. وقيل النداء له ولفظ الجمع للتعظيم والطيبات ما يستلذ به من المباحات. وقيل الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصى الله فيه والصافي ما لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل. (وَاعْمَلُوا صالِحاً) فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم. (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فأجازيكم عليه.
(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)(٥٢)
(وَإِنَّ هذِهِ) أي ولأن (هذِهِ) والمعلل به (فَاتَّقُونِ) ، أو واعلموا أن هذه ، وقيل إنه معطوف على (بِما تَعْمَلُونَ) وقرأ ابن عامر بالتخفيف والكوفيون بالكسر على الاستئناف. (أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ملتكم ملة واحدة أي متحدة في الاعتقاد وأصول الشرائع ، أو جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة ونصب (أُمَّةً) على الحال. (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) في شق العصا ومخالفة الكلمة.
(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (٥٤).