ف (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) مصلح إذ نحا نحو الحق المبين ، يصلح به نفسه ويصلح آخرين ، و (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) مفسد إذ يعرض عن مسرح الحق بمصرحه ، يفسد نفسه ويفسد آخرين (وَرَبُّكَ) الذي رباك بهذه التربية القمة السامقة (أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) غير المؤمنين به متجاهلين ، ولأن (لا يُؤْمِنُ) ليس إلا تقصيرا تركا للتدبير فيه أم سواه من تقصير ، إذا فعدم الإمعان في معانيه إفساد ، مهما اختلف إفساد عن إفساد.
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)(٤١).
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ) بعد كل هذه البراهين الباهرة ، فلا رجاء ـ إذا ـ فيهم لتقبّل هذه الدعوة ، فهنالك المفاصلة التامة (فَقُلْ لِي عَمَلِي) فلا يضركم ما أنا عليه لو كنت كاذبا (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) لا يضرني إذ أنتم كاذبون ، ثم إذا (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ) ف (أَنَا بَرِيءٌ) كما أنتم (مِمَّا تَعْمَلُونَ).
وهذه لمسة ماسة لوجدانهم ـ إن كان لهم وجدان ـ باعتزالهم بأعمالهم ، وانعزالهم لمصيرهم منفردين ، ليواجهوا مصيرهم دونما سند ولا عماد.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ)(٤٢).
هنا (يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) دون «لك ـ أو ـ يستمعونك» تقرر موقف استماعهم أنه ما كان بقصد الانتفاع ، بل هو الانتقاد للرسالة القرآنية ، مظهرين أنهم استمعوا إليه لقرآنه ، محيطين بعلمه ، فما وجدوه إلّا مفترى على ربه (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) الذين لا يسمعون (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) ما استمعوه وهم لاهون لاعبون ، أم لم يعوه إذ لم يستمعوه ، (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً. وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (١٧ : ٤٧).