فها هو الماء ـ الروح ـ ينزل من سماء الرحمة إلى دار الضيق والظلمة والزحمة ، فنبات البدن يمتصه ويختلط به فيمرع ويزدهر في الظاهر ، وها هي ذي الأرض البدن كأنها عروس مجلوة متزينة لعريس ومتبرجة ، ويظن أهلها أنها ازدهرت وبهرت وبما حاولوا تزينت فلا تتغير فإذا (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً ..)! فهذه هي الدنيا بحذافيرها خاطفة غير عاطفة إلا جارفة خارفة ، إلا لمن تزود منها للآخرة ، ولذلك نسمع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول :
«إنما أخشى عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من بركات الأرض» (١) و «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (٢) و «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره» (٣) و «كن في الدنيا كأنك غريب» (٤) و «إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظلّ تحت شجرة ثم راح»(٥).
«ألا وإن الدنيا قد تصرمت ، وأذنت بالقضاء ، وتنكر معروفها ، وأدبر حذّاء ، فهي تحفز بالغناء سكّانها ، وتحدوا بالموت جيرانها ، وقد أمرّ منها ما كان صلوا ، وكدر منها ما كان صفوا ، فلم يبق منها إلا سملة كسملة الأداوة ، أو جرعة كجرعة المقلة ، لو تمزّزها الصّديان لم ينفع ، فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزوال ، ولا يغلبنكم فيها الأمل ، ولا يطولن عليكم فيها الأمد ، فوالله لو حننتم حنين الولّه العجال ، ودعوتم بهديل الحمام ، وجأرتم جؤار متبتل الرّهبان ، وخرجتم إلى الله من الأموال والأولاد ، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده ،
__________________
(١) المصدر نقلا عن مس ـ ك ٥٣ ح ١ ، تر ـ ك ٣٤ ب ١٦ ، مج ـ ك ٣٧ ب ٣ قا ، حم ـ ثان ص ١٩٧ و٣٢٣ و٣٨٩ و٤٨٥.
(٢) المصدر ـ تر ـ ك ٣٤ ب ١٨ ـ ٢٠ ، مج ـ ك ٣٧ ب ٢ ،
(٣) مجلة العرفان العدد الثالث المجلد ٦١ ص ٣٩١ عن الإمام الصادق (عليه السلام).
(٤) المصدر نقلا عن بخ ـ ك ٨١ ب ٣ ، تر ـ ك ٣٤ ب ٢٥ ، حم ـ ثان ص ٢٤ و٤١ و١٣٢.
(٥) المصدر نقلا عن تر ـ ك ٣٤ ب ٤٤ ، حم ـ أول ص ٣٠١ و٣٩١ و٤٤١ ، ط ـ ح ٢٧٧.