سَماءُ أَقْلِعِي) ماء منك (وَغِيضَ الْماءُ) : نقص حيث ابتلعت الأرض ماءها الخاص بباطنها ، وأقلعت السماء ماءها الخاص بها ، فلم يبق إلا ماء الأرض الخاص بوجهها بحارا وأنهارا وسواقي وعيونا كما كانت قبل الطوفان ، «واستوت» الفلك (عَلَى الْجُودِيِ) حيث مرساها الأخير (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) غرقا في الطوفان ثم حرقا في النار.
وهكذا انطوى طومار هؤلاء المكذبين الكفار ، (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)!.
ويا لها من جملة مختصرة جميلة حاسمة تطوي ذلك الموقف الطويل الطويل طيا خاطفا كأن لم يغن بالأمس ، فقد انطوى طومار كل هؤلاء الملإ وامرأة نوح وابنه لفترة قصيرة يسيرة ، فظلوا هامسين ناكصين ، ثم غرقوا فلا تسمع لهم ولا همسا.
ويا لها من فصاحة وبلاغة قمة ، بارزة لكل معارضة ، حيث فشلت أمام القرآن كله ، وأمام هذه الآية بخصوصها ، فقد روي أن كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على ألباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم ، فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية فقال بعضهم لبعض : هذا كلام لا يشبه كلام المخلوقين وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا.
فهنا لا يذكر الله باسمه ولا باسم نوح والمؤمنين معه ولا قومه إلّا دعاء : (بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) حصرا في الموقف بعوامل الخلقة المأمورة ، وحسرا عن طرح اسم الله ، وكلّ واجد موضعه من فاعل ومفعول ، لأن كلا معروف بموقفه ، فلقد جمع عجاب من أسباب الإيجار والإعجاز ما اهتم بشأنها الرعيل الأعلى من رجال البلاغة ، فغاصوا خضمّها ، واستخرجوا ما استطاعوا من لئاليها ، ولم تكن إلا قطرة من يمّ.
ومن ذلك خطاب الأرض والسماء ببلع الماء وقلعه ، إنباء عن نفاذ قدرته وسرعة مضي أمره وكان حصول أمره رهن لفظ الكلام دون معاناة ولا كلفة ولا لغوب ومشقة