والأظهر أنّ هذه الآية نزلت عقب وقعة بدر ، وقبل وقعة الخندق ، فالنقض الحاصل منهم حصل مرّة واحدة ، وأخبر عنه بأنّه يتكرّر مرات ، وإن كانت نزلت بعد الخندق ، بأن امتدّ زمان نزول هذه السورة ، فالنقض منهم قد حصل مرّتين ، والإخبار عنه بأنّه يتكرّر مرّات هو هو ، فلا جدوى في ادّعاء أنّ الآية نزلت بعد وقعة الخندق.
وجملة : (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) إمّا عطف على الصلة ، أو على الخبر ، أو في محلّ الحال من ضمير (يَنْقُضُونَ). وعلى جميع الاحتمالات فهي دالّة على أنّ انتفاء التقوى عنهم صفة متمكّنة منهم ، وملكة فيهم ، بما دلّ عليه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي من تقوي الحكم وتحقيقه ، كما تقدّم في قوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
ووقوع فعل (يَتَّقُونَ) في حيّز النفي يعمّ سائر جنس الاتّقاء وهو الجنس المتعارف منه ، الذي يتهمّم به أهل المروءات والمتديّنون ، فيعمّ اتّقاء الله وخشية عقابه في الدنيا والآخرة ، ويعمّ اتّقاء العار ، واتّقاء المسبّة واتّقاء سوء السمعة. فإنّ الخسيس بالعهد ، والغدر ، من القبائح عند جميع أهل الأحلام ، وعند العرب أنفسهم ، ولأنّ من عرف بنقض العهد عدم من يركن إلى عهده وحلفه ، فيبقى في عزلة من الناس فهؤلاء الذين نقضوا عهدهم قد غلبهم البغض في الدين ، فلم يعبئوا بما يجرّه نقض العهد ، من الأضرار لهم.
وإذ قد تحقّق منهم نقض العهد فيما مضى ، وهو متوقّع منهم فيما يأتي ، لا جرم تفرّع عليه أمر الله رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يجعلهم نكالا لغيرهم ، متى ظفر بهم في حرب يشهرونها عليه أو يعينون عليه عدوّه.
وجاء الشرط بحرف (إن) مزيدة بعدها (ما) لإفادة تأكيد وقوع الشرط وبذلك تنسلخ (إن) عن الإشعار بعدم الجرم بوقوع الشرط وزيد التأكيد باجتلاب نون التوكيد. وفي «شرح الرضي على الحاجبية» ، عن بعض النحاة : لا يجيء (إمّا) إلّا بنون التأكيد بعده كقوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَ) [مريم : ٢٦]. وقال ابن عطية في قوله : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) دخلت النون مع إما : إمّا للتأكيد أو للفرق بينها وبين إمّا التي هي حرف انفصال في قولك : جاءني إمّا زيد وإمّا عمرو.
وقلت : دخول نون التوكيد بعد (إن) المؤكّدة بما ، غالب ، وليس بمطّرد ، فقد قال الأعشى :
إمّا ترينا حفاة لا نعال لنا |
|
إنّا كذلك ما تحفى وننتعل |