مغفرة شديد الغفران رحيم بعباده ، فمثال المبالغة وهو غفور المقتضي قوة المغفرة وكثرتها ، مستعمل فيهما باعتبار كثرة المخاطبين وعظم المغفرة لكلّ واحد منهم.
وقرأ الجمهور (مِنَ الْأَسْرى) ـ بفتح الهمزة وراء بعد السين ـ مثل أسرى الأولى ، وقرأها أبو عمرو ، وأبو جعفر من الأسارى ـ بضمّ الهمزة وألف بعد السين وراءه ـ فورودهما في هذه الآية تفنّن.
(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))
الضمير في (يُرِيدُوا) عائد إلى من في أيديكم من الأسرى. وهذا كلام خاطب به الله رسوله صلىاللهعليهوسلم اطمئنانا لنفسه ، وليبلغ مضمونه إلى الأسرى ، ليعلموا أنّهم لا يغلبون الله ورسوله. وفيه تقرير للمنّة على المسلمين التي أفادها قوله : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) [الأنفال : ٦٩] ، فكل ذلك الإذن والتطييب بالتهنئة والطمأنة بأن ضمن لهم ، إن خانهم الأسرى بعد رجوعهم إلى قومهم ونكثوا عهدهم وعادوا إلى القتال ، بأنّ الله يمكّن المسلمين منهم مرة أخرى ، كما أمكنهم منهم في هذه المرة ، أي : أن ينووا من العهد بعدم العود إلى الغزو خيانتك ، وإنّما وعدوا بذلك لينجوا من القتل والرقّ ، فلا يضرّكم ذلك ، لأنّ الله ينصركم عليهم ثاني مرة. والخيانة نقض العهد وما في معنى العهد كالأمانة.
فالعهد ، الذي أعطوه ، هو العهد بأن لا يعودوا إلى قتال المسلمين. وهذه عادة معروفة في أسرى الحرب إذا أطلقوهم فمن الأسرى من يخون العهد ويرجع إلى قتال من أطلقوه.
وخيانتهم الله ، التي ذكرت في الآية ، يجوز أن يراد بها الشرك فإنّه خيانة للعهد الفطري الذي أخذه الله على بني آدم فيما حكاه بقوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم [الأعراف : ١٧٢] الآية فإنّ ذلك استقرّ في الفطرة ، وما من نفس إلّا وهي تشعر به ، ولكنّها تغالبها ضلالات العادات واتّباع الكبراء من أهل الشرك كما تقدّم.
وأن يراد بها العهد المجمل المحكي في قوله : (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما)[الأعراف : ١٨٩ ، ١٩٠].