الأكثر في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي ، إذا لم يقع المسند إليه عقب حرف النفي ، أن لا يفيد تقديمه إلّا التّقوي ، دون التخصيص ، وذلك هو الأكثر في القرآن كقوله تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٧٢] إذ لا يراد وأنتم دون غيركم لا تظلمون.
فقوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) بدل من (الَّذِينَ كَفَرُوا) بدلا مطابقا ، فالذين عاهدهم هم الذين كفروا ، فهم لا يؤمنون. وتعدية (عاهَدْتَ) بمن للدلالة على أنّ العهد كان يتضمّن التزاما من جانبهم ، لأنّه يقال أخذت منه عهدا ، أي التزاما ، فلمّا ذكر فعل المفاعلة ، الدالّ على حصول الفعل من الجانبين ، نبّه على أنّ المقصود من المعاهدة التزامهم بأنّ لا يعينوا عليه عدوّا ، وليست من تبعيضية لعدم متانة المعنى إذ يصير الذم متوجّها إلى بعض الذين كفروا ، فهم لا يؤمنون ، وهم الذين ينقضون عهدهم.
وعن ابن عباس ، وقتادة : أنّ المراد بهم قريظة فإنّهم عاهدوا النبي صلىاللهعليهوسلم أن لا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوّه ، ثم نقضوا عهدهم فأمدّوا المشركين بالسلاح والعدّة يوم بدر ، واعتذروا فقالوا : نسينا وأخطأنا ، ثم عاهدوه أن لا يعودوا لمثل ذلك فنكثوا عهدهم يوم الخندق ، ومالوا مع الأحزاب ، وأمدّوهم بالسلاح والأدراع.
والأظهر عندي أن يكون المراد بهم قريظة وغيرهم من بعض قبائل المشركين ، وأخصها المنافقون فقد كانوا يعاهدون النبي صلىاللهعليهوسلم ثم ينقضون عهدهم كما قال تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) [التوبة : ١٢] الآية. وقد نقض عبد الله بن أبي ومن معه عهد النصرة في أحد ، فانخزل بمن معه وكانوا ثلث الجيش. وقد ذكر ، في أوّل سورة براءة عهد فرق من المشركين. وهذا هو الأنسب بإجراء صلة الذين كفروا عليهم لأنّ الكفر غلب في اصطلاح القرآن إطلاقه على المشركين.
والتعبير ، في جانب نقضهم العهد ، بصيغة المضارع للدلالة على أنّ ذلك يتجدد منهم ويتكرر ، بعد نزول هذه الآية ، وأنهم لا ينتهون عنه ، فهو تعريض بالتأييس من وفائهم بعهدهم ، ولذلك فرّع عليه قوله : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) إلخ. فالتقدير : ثم نقضوا عهدهم وينقضونه في كلّ مرّة.
والمراد ب (كُلِّ مَرَّةٍ) كلّ مرة من المرات التي يحقّ فيها الوفاء بما عاهدوه عليه سواء تكرّر العهد أم لم يتكرّر ، لأنّ العهد الأول يقتضي الوفاء كلّما دعا داع إليه.