وقدره غيره : كفروا ، فحذف لدلالة كفروا به عليه ، والمعنى قريب في ذلك. وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ) ، جواب لما الأولى ، وكفروا ، جواب لقوله : فلما جاءهم. وهو عنده نظير قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ) (١). قال : ويدل على أن الفاء هنا ليست بناسقة أن الواو لا تصلح في موضعها. وذهب المبرد إلى أن جواب لما الأولى هو : كفروا به ، وكرر لما لطول الكلام ، ويقيد ذلك تقريرا للذنب وتأكيدا له. وهذا القول كان يكون أحسن لولا أن الفاء تمنع من التأكيد. وأما قول الفراء فلم يثبت من لسانهم ، لما جاء زيد ، فلما جاء خالد أقبل جعفر ، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته ، ولا حجة في هذا المختلف فيه ، فالأولى أن يكون الجواب محذوفا لدلالة المعنى عليه ، وأن يكون التقدير : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) كذبون ، ويكون التكذيب حاصلا بنفس مجيء الكتاب من غير فكر فيه ولا رويّة ، بل بادروا إلى تكذيبه. ثم قال تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ) ، أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم ، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث قد قرب وقت بعثه ، فكانوا يخبرون بذلك.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) : وما سبق لهم تعريفه للمشركين. (كَفَرُوا بِهِ) : ستروه وجحدوه ، وهذا أبلغ في ذمهم ، إذ يكون الشيء المعروف لهم ، المستقر في قلوبهم وقلوب من أعلموهم به كيانه ونعته يعمدون إلى ستره وجحده ، قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢). وقال أبو القاسم الراغب : ما ملخصه الاستفتاح ، طلب الفتح ، وهو ضربان : إلهي ، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم المؤدية إلى الثواب ، ومنه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) (٣) ، فعسى الله أن يأتي بالفتح. ودنيوي ، وهو النصرة بالوصول إلى اللذات البدنية ، ومنه (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (٤). فمعنى يستفتحون : أي يعلمون خبره من الناس مرّة ، ويستنبطون ذكره من الكتب مرة. وقيل : يطلبون من الله بذكره الظفر. وقيل : كانوا يقولون إنا ننصر بمحمد صلىاللهعليهوسلم على عبدة الأوثان. وكل ذلك داخل في عموم الاستفتاح. انتهى. وظاهر قوله : ما عرفوا أنه الكتاب ، لأنه أتى بلفظ ما ، ويحتمل أنه يراد به النبي صلىاللهعليهوسلم. فإن ما قد يعبر بها عن صفات من يعقل ، ويجوز أن يكون المعنى : ما عرفوه من الحق ، فيندرج فيه معرفة نبوّته وشريعته وكتابه ، وما تضمنه.
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٨.
(٢) سورة النمل : ٢٧ / ١٤.
(٣) سورة الفتح : ٤٨ / ١.
(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٤٤.